أرشيف التصنيف: Uncategorized

محمود درويش.. الظلال تطارد ملك الصدى (1 – 2)

في السابعة من عمره، وفي إحدى ليالي الصيف التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل، أيقظت الأم ولدها محمود من نومه فجأة، وجد نفسه مع المئات من سكان قريته في الأراضي المغطاة بأشجار الزيتون، والرصاص يتطاير فوق رؤوسهم، وهم يهرولون لمغادرة قرية “البـــِروة” من الجليل قرب ساحل عكا بفلسطين إلى جنوب لبنان.

تضع مجريات أحداث ووقائع تلك الليلة المخيفة نهاية مأساوية لطفولة محمود درويش المبكرة، لتلقي بها الأقدارُ “في النارِ؛ وفي الخيمةِ؛ وفي المنفى” دون سابق إنذار. يلتفت الطفل حوله، ربما تمد له البراءةُ يدَ العون، وتكشف حقيقة ما يدور حوله، وما خبأته له الأقدار، فلا يرى سوى الطفولة التي تغادر روحه أمام عينيه، وتستبدلها بهموم وأوجاع وأحزان الكبار التي تسكنه، وتحرك بداخل وجده ووجدانه إلهاماً مبكراً يدرك عبره سلطة الكلمات التي ستطوف العالم إلى يومنا هذا.

في عام 1995، جسّد محمود درويش ليلة التهجير هذه في ديوانه “لماذا تركت الحصان وحيداً؟”، فجاء فيها “يقول أبٌ لابنه: لا تخف/ لا تخف من أزيزِ الرَّصاصِ/ التصق بالترابِ لتنجو/ سننجو ونعلو على جبلِ الشمال/ ونرجعُ حين يعودُ الجنودُ إلى أهلهم في البعيد). يُسائل الطفل الأبَ: (ومَنْ يسكنُ البيتَ من بعدنا يا أبي؟)، فيجيبه: (سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي)، يعيد الطفل السؤال بصيغة أقرب إلى البراءة: (ولماذا تركتَ الحصانَ وحيداً؟)، فيجيب الأب بحسرة وانكسار: (لكي يؤنسَ البيتَ يا ولدي/ فالبيوتُ تموتُ إذا غاب أصحابـُــها؟)

8

مأساة اللجوء المبكر

على هذا النحو أُجبر الطفل محمود، المولود في 13 مارس (آذار) عام ،1941 بصحبة والده المزارع، وأم قروية وثلاثة إخوة، عددهم آنذاك، بالإضافة إلى المئات من أهالي قريته، على النزوح القسري من قرية “البـــِروة” في الجليل الغربي بفلسطين إلى القرى اللبنانية بعد النكبة الفلسطينية في شهر يونيو (حزيران) عام 1948، ليصيروا لاجئين بعدما استوطن الإسرائيليون قرى الفلاحين ودفنوا الحقيقة تحت تراب أراضيهم.

عاد درويش مع عائلته متسللين إلى البِروة بعد أكثر من عام، وفوجئوا بأن الاحتلال استبدل الأرضَ بغيرِ الأرض، ولم يعد لقريتهم وجود على جَسد الخريطة، بعدما اُغتصبت بليل، وأحيطت بالأسلاك الشائكة، وطُمس اسمُها، وصارت مستوطنة باسم عبري تدعى “أحيهود”، تخلصاً من الهوية الفلسطينية، وتهويداً لأراضيها.

اضطر درويش بصحبة عائلته إلى الانتقال إلى قرية غير قريته، تدعى “دير الأسد”. وكما عاد درويش إلى وطنه متسللا، التحق بالمدرسة الابتدائية متسللا، ليطارده وصف “المتسلل” ويصير له قدرا، وفقا لروايته. فكلما داهم المدرسة تفتيش من وزارة “المعارف” الإسرائيلية، كان المدرسون، الذين تعاطفوا بالطبع مع الطفل محمود، يخبئونه إلى أن يعبر العابرون، كي لا يتعثروا فيه ويطرد.

33

هذا الطفل النازح الذي عاش حياة اللاجئين في لبنان تسربت إلى طفولته المبكرة معاني الحرب، والمطاردة، والحدود، والعودة، والوطن، والتسلل، هي التي شكلت بداخله مفهوم القضية الفلسطينية التي سيصير شاعرها، يُعرف بها وتـــُعرف به أينما حل؛ سيصير “شاهد المذبحة وشهيد الخريطة”، على نحو ما عبّر في قصيدة الأرض، سيصير أيضا لسان شعب بأكمله، ويجسد عبرها أزمة الهوية الثقافية التي طمسها الاحتلال، ليعود إلينا من “حضرة الغياب”، ونحتفي بذكرى ميلاده الثامن والسبعين اليوم، ونكشف معاناة درويش على ذيوع صيته في الشرق والغرب، لنردد معه أنشودته “أنا مَلكُ الصدى، لا عَرشَ لي سوى الهوامش”.

درويش الذي جسَّد، إلى جوار آخرين بالطبع، وقائع ومجريات القضية الفلسطينية عبر منجزه الشعري، لم يستطع أحد من أقرانه الركض خلف تحولاته الشعرية والجمالية التي نصّبته رمزا يَستعصي نسيانُه على ذاكرة الشعر العربي الحديث، أو التنكر لمنجزه الذي يربو على الثلاثين إصداراً، بينها 23 مجموعة شعرية، بدأت بديوان “عصافير بلا أجنحة” عام 1969، وهو في سن التاسعة عشرة، مرورا بـ”أثر الفراشة” في 2006، وانتهاءً بديوان “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”، الصادر بعد وفاته في 2009، بالإضافة إلى إصداراته النثرية التي بدأت عام 1971 بكتاب “شيء عن الوطن”، و”يوميات الحزن العادي” 1973، و”ذاكرة للنسيان” 1987، و”في حضرة الغياب” 2006، و”حيرة العائد” 2007.

1

قبل الحنين إلى خبز أمه

كاميرا الحياة (8).. داخل المعترك خارج الحياة

أنصت إليها بقلبه، وحينما شعر أن لسانها تعطل عن الكلام، قاطعها ليخفف من وقع اللحظة، ليروي لها ويكسر حاجز الملل، فأخبرها، أما أنا يا صديقتي، فقد بلغت من الهموم عتياً، صرتُ كما يقول الشاعر “كهلاً صغير السن”. شقتني الأوجاع شقاً منذ وقت طويل، لم تكن لدي رفاهية أن أخلق عرائسي على نحو ما صنعتي كي أحكي لها وأتناقش معها وأملي عليها ما تفعل وما لا تفعل. فقد دُفعت بين الحشود وضجيج السيارات والباصات وحواري المدينة كي ألملم رزقي من هنا وهناك. رزقي الذي بُعثر في الطرقات وعليّ أنا لا غيري من يجمع شتاته، كما يروي البعض.

2

الأصوات الصاخبة لرواد الشوارع أعلى من أن تسمع فيه صوتَ أنفاسك، ولو حدث، وشرد ذهنك فقد اقترفت جريمة لا تغتفر، تستيقظ منها على دبيب أكتاف المارة. ولو لم تنتبه وتتأهب، ربما تُدهس تحت الأقدام ولن يسمع أحد صراخك، لذا لا مكان لمتلفت هناك. لكن هل يصح هنا الاستشهاد بأدبيات أهل التصوف، وقولهم “المتلفت لا يصل” ليجسد المشهد على سبيل المجاز؟!

ربما لم أكن أعرف أهل التصوف بعد، ولم أسمع عنهم، وإن رأيت الدراويش والمجاذيب الذين أشار حدسي نحوهم بشعور غريب شاركوني فيه وتبادلناه، ولم يتوقف أحد منا ليسمع الآخر. فكلانا يدرك القوانين جيداً، لذا لم تتحدث الشفاه وإن التقطت العيون الإشارة. 

ما الذي جاء بنا إلى هنا!

 من خيالك الرحب في قلعة طفولتك المحمية بالحراس والمحيطين بك ومن يقدم النصح والإرشاد، إلى شوارع ضيقة بأنفاس البشر التي لا تُحصى. قانونُها يُدرك بنظرة عين، ويعني ببساطة “استنهاض حواسك، ووعيك كي تحمي جسدك الضعيف وتستطيع الوصول”، وقتها، ووقتها فقط ستدرك أن قليلي الحيلة، والجهلاء بهذا القانون فقط، هم من يحاولون أن يعطلوا المسير بالتهليل في الطرقات الضيقة، وإثارة الشغب، أما العارفون فيدركون دائما ألا وقت هناك لشيء سوى ما ذهبت لقضائه. 

هل يشبه المشهد هنا غابةً يتحرك بين أشجارها ودروبها القطيعُ، ويكون قانونها البقاء للأقوى أو للأصلح، ربما!

نظر في عين صديقته فأشفق عليها بعدما رأى الزحام الذي يروى لها عنه وقد تحرك بداخلها، وارتفع ضغط دمها للمفارقة الشاسعة بين المشهدين (ما روته وما وضعها أمامه من وقائع وأحداث). فهل أراد صدمتها بمشاركة الحديث معها، في محاولة لإيقاظ حواسها لعوالم أخرى أكثر شراسة على أرض الواقع عن تلك التي تدور في خيالها؟ ربما.

لكنه شعر في النهاية أن لابد للحكاية أن تكتمل، ولو في عجالة، كي تصل الرسالة على النحو الذي يريده، لتستكمل هي بدورها الحديث.

الحياة 2

تابع، أتعرفين يا صديقتي، المأساة هنا ليست في تفاصيل المشهد بقدر ما هي في الصراع القائم من أجل لا شيء.. أتعرفين معنى اللا شيء؟

همس في أذنها إنهم يهرولون من أجل الشقاء والكدح، فأبواب الجنة لم تكن مفتوحة هناك ليسارعوا إلى دخولها فتطيب لهم الحياة!، فلم يكن هناك سوى الجحيم مجسد، يهرول الجميع، كلٌ في طريقه كي يجلب رزقه من محجر الحياة بعد أن يستحلب الصخر؛ بضع جنيهات تكفل لهم تغطية يوم من أيام الحياة التي تخلو تماماً من الحياة، فهي جنيهات لا تصنع شيئا أكثر من سد الرمق، وربما تكفي بالكاد تلبية احتياجات الأسرة. وتنفد من أيديهم بمجرد تسلمها والتفكير بما يتوجب عليهم سداده، ليبدأ يوم جديد، بشقاء جديد، تماما كصخرة سيزيف كما تروى الأساطير.

دعيني أوضح لك الأمر على نحو أكثر دقة.

لفترة طويلة من طفولتي، وبعدما اشتد عودي عملت بالمقاولات، كنتُ ورفاق الكدح نقضي النهار في تكسير الجدران وتشوين الطوب وتحميل الأسمنت، وأحياناً الرخام باهظ الثمن.

أتذكر أنه كان هناك نوع من الرخام لونه أحمر بدرجة جميلة يعمل على تشوينه مجموعة من العمال، كنت من بينهم. وأخبرنا الصنايعي بفخرٍ وهو يوصينا به خيراً، ويعرفنا إليه، أنه يسمى “لحم هوانم”. وهو واحد من أرقى وأغلى أنواع الرخام حينها.

 في الحقيقة لم أسع للتحقق من الأمر، واستقصاء هل كان الاسم دارجاً بين الحرفيين، من عدمه، ولماذا لقبوه بهذا اللقب. مرت أيامي بين العمال والحرفيين على نحو كان يمتلأ بالحكايات الغريبة التي قد تصل إلى حد الأسطورة.

لحم هوانم

الأهم من هذا وذاك أننا بعدما نقضي اليوم من الثامنة إلى السادسة؛ أي من مطلع الشمس  إلى مغربها، ونتناول عشاءنا كنا ننام فرحين، لأن مشرف الأعمال أخبرنا أن سيارة رمل سوف تأتي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وعلينا تشوينها إلى الداخل قبل أن يمتلا الشارعُ بالمارة، ويأتي موظف الحي، تجنبا لتحرير مخالفة لمالك العقار، يدفع على إثرها غرامة إشغال طريق، بالإضافة إلى تحميل مخلفات الهدم التي قمنا بها في الصباح، وهو ما يعني لنا يومية أو يوميتن زائدتين على ما نحصل عليه، كنا نهرول إلى هذا بإرهاق مميت وبفرحة غامرة.. ألم أقل لك منذ قليل إنهم يهرولون إلى الشقاء؟،

أي جنون هذا الذي يسعى إليه الفقراء، وقليلو الحيلة؟

ألم يكن أولى بهم أن يتباطأوا في جني الشقاء الذي لا حيلة له في جلبه؟

لكنهم معذرون، فأن يفكر أحدهم على هذا النحو، فهذا يعني أنه سيكون في العراء، وربما يموت جوعاً، فلا حيلة لديه سوى قواه الجسدية التي تتآكل مع الأيام، بعدها يتولاه الرب!

 

الحياة 3

 

مرت الأيام، وتنقلت في عدد من الأقاليم أعمل في تشييد مبنى هنا، وهدم آخر هناك، وأنا أتأمل شئون الله في خلقه، أرى الفقراء والأثرياء ومن هم دون ذلك، عشت حياتي أملأ عيني بالمشاهد والمواقف، ربما تظنين أن في هذا ثراء قد لا يوقعني في المخاوف والاكتئاب، الحقيقة قد يكون معك حق وإن كنا سنختلف في التفسير، إذ ليس هناك وقت للخوف وأنت داخل المعركة، وإلا ستدهس على النحو الذي أخبرتك عنه في بداية الحديث.

 

الحياة 4

 

تنهد بعدما غلبه الوجع إثر الحكايا، وأخبرها كي ينهي ما شرع في بدئه: أحاديث كثيرة تختزلها الضلوع، تختلف وقائعها لكنها تتفق على دورانها في فلك الهزيمة والانكسارات والمذلة والجبر والاستغلال. لعل المنحة هنا تتجسد في الوعي المبكر للحياة التي أورثتني إياها! وربما كانت في واقع الأمر محنتي الكبرى، لست أدري. ربما سأروي لك عنها لاحقاً، بعد أن نقف على أطراف مدن خيالك ومن وقع عليهم اختيارك ليشاركوك آمالك وطموحاتك وتُملي عليهم ما يدور في ذاكرتك.

 للحديث بقية

كاميرا الحياة 7.. أمام المرآة

الباحث المصري مصطفى سليم لـ«الكوني»: فخور بنبوءة شيخ الصحـراء

قال الباحث المصري الدكتور مصطفى سليم، في رده على الرسالة التي وجهها إليه الأديب الليبي الكبير، إبراهيم الكوني: «إنه فخور بهذه الرسالة تماما كفخره بحكم لجنة مناقشة أطروحته للدكتوراه التى أفادت بأن الباحث خاض مغامرة نقدية وجريئة فى عالم الكونى الروائى على صعوبته المبنية على الرمز، واللغة الكلاسيكية الشبيهة بلغة كبار المتصوفة».

وأضاف «سليم» الذي نال مؤخرًا درجة الدكتوراه في النقد الأدبي عن أطروحة ناقشت سداسية «الأسلاف والأخلاف» لـ«الكوني»، في تصريح خاص لصحيفة «المتوسط»: «إن نبوءة روائى بثقافة الكونى لمسيرة منجزه النقدى فخر له، فى وقت يشكو كثير من الأدباء من بعض القراءات النقدية لروياتهم، ويرون أنها ظلمتهم، بل يعلنون أن بعض النقاد لم يجد قراءة رسالة النص الحقيقية “أو ما وراء السطور».

وأثنت لجنة مناقشة أطروحته للدكتوراه على البحث الذي قدمه الدكتور مصطفى سليم بأنه «تمكن من تطويع اللغة ومن فك الترميز وكتب رسالة علمية رصينة ومُحكمة يفخر بها قسم اللغة العربية فى جامعة عين شمس».

وأضاف «سليم» «أن يأتى الكونى ويتنبأ بـ”ميلاد باحث يرسم الطريق فى متاهات المستقبل”، فهذا شىء أعتز به، وهو نفسه من عانى من ظلم النقاد له وقولهم عنه أنه أسير الصحراء، وقد كتب سداسية الأسلاف والأخلاف واستبدل فيها الصحراء بالبحر  فى تحدٍ منه لأنصار الاختزال والقولبة، وقد انتبهت لهذا التحول الدرامى فى مسيرة منجزه السردى».

وعن أطروحته للدكتوراه يقول: «خضت مع “الكوني” التحدى طوال 7 سنوات، هى عمر دراستى النقدية له، لنحرر رقبة الرجل من حكم القيمة الذى اختزله فى هذه المقولة الظالمة والجاهلة، ونكشف عن جماليات منجزه السردى الذى يبلغ 86 رواية، ترجم الكثير منها لـ40 لغة حية».

وأوضح أنه يستأنف أبحاثه بالعكوف على السيرة الذاتية لإبراهيم الكونى والمعنونة بـ”عـَدوس السرى”، الصادرة فى أربعة أجزاء حتى الآن، بالإضافة إلى دراسة أنثربولوجية عن الأمازيغ كأمة ويسعى جاهدا للتواصل مع الجهات الرسمية المعنية بهذا الشأن.

وجاء في نص الرسالة التي بعث بها الكوني للباحث المصري، اليوم السبت: «إلى الأستاذ الفاضل د.مصطفي سليم.. امتنانًا على الاهتمام أولاً، وتهانينا على إنجازكم العلمي الثري ثانيًا، مع الاعتذار على تأخرنا في الرد نظرًا لغيابنا عن مكان الإقامة».

وأضاف: «دللتم بأطروحتكم على قدرة التحدي في تحقيق الحلم مهما تبدى بعيد المنال، وكأنكم تترجمون بعملكم هذا تجربتنا التي كانت سببًا في خلق هذه الملحمة؛ لأن التحدي يقينًا هو برهانها، ليكون صديقي الكبير صلاح فضل هو صاحب الفضل في قدح زند شررها، ففي عام 2001 عندما التأمنا لحضور أحد المؤتمرات الفكرية في الإسكندرية صارحني قائلًا أن أكتب عملاً يكشف مجاهل تاريخ ليبيا المجهول، حتى بالنسبة لجيرانهم المصريين، بعد أن أشاد بإشباعي لقارة الصحراء حرثًا وكشفًا».

وواصل «الكوني» في رسالته: «وصية العزيز فضل صارت في وجداني وسواسًا منذ ذلك اليوم، ولم أهنأ بالاً قبل أن أختط أول بنية فيها المترجمة في (نداء ما كان بعيد). فما أجلهم من أصدقاء الروح أمثال صلاح فضل الذين لا يكتفون بأن يضيؤوا لنا أعمالنا ويقدموها عارية لمريدي الحقيقة، ولكنهم يأبون إلا أن يرسموا لنا خرائط الحفر ليُيسروا لنا عبور متاهات الروح لإعلاء شأن حقيقةٍ عسيرٌ أن تنال اعتراف السّوي ما لم تتدثر بمسوحٍ من جمال، فهنيئًا لنا ولكم به مفكرًا وناقدًا وهاديًا ومربي أجيال. وطوبى لكم به معلمًا وشيخ طريقة».

واختتم رسالته قائلا: «مع كل إكبارنا لمغامرتكم ويقيننا بميلاد باحثٍ سيشعل لنا قناديل طريقٍ في متاهة المستقبل. والسلام.. إبراهيم الكوني».

وحصل الكاتب والباحث مصطفى سليم، على درجة الدكتوراة في النقد الأدبي، من جامعة عين شمس، عن أطروحته «الأسلاف والأخلاف بين السلطة والحرية.. تشكلات السرد في ملحمة إبراهيم الكونى» بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، وتكونت لجنة المناقشة من الأساتذة الدكاترة، صلاح فضل، مشرفًا ورئيسًا، وعبدالناصر حسن مناقشًا، وحسين حمودة مناقشًا.

نجيب محفوظ.. تاريخ القاهرة في روايات القيصر

سئل الشيخ عبد ربه التائه: هل تحزن الحياة على أحد؟ فأجاب: نعم إذا كان من عشاقها المخلصين”، بهذه الكلمات عبر نجيب محفوظ عن علاقة الحياة بعشاقها، ورسم بها طريقا للحياري واليائسين ترشدهم إلى حب الحياة على طريقة الشيخ “عبد ربه التائه” (بطله الرمزى المفعم بروح الحكمة الذى يتماهى معه محفوظ) فى “أصداء السيرة الذاتية”.

12

وإذ كان “عبد ربه التائه” أو فلنقل نجيب محفوظ استنطق بطله بهذه الكلمات التي ترصد حزن الحياة على عشاقها المخلصين، فإن الرواية “ديوان العصر الحديث” ستحزن طويلا على قيصر الرواية العربية وفيلسوفها، وهى تحتفي بالذكرى العاشرة لرحيله.

13

آثر محفوظ الخلود بين موسيقى الحرف العربى بما نسجه من تأريخ روائى للقاهرة القديمة، ونقله صورة حية عن واقع الحياة فيها من مشاعر وعادات وتقاليد وثقافات وأزياء سادت فيها، ما يقيم ثمة تشابها بينه وبين المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتى، الذى عاصر الحملة الفرنسية فى القرن الثامن عشر الميلادى وكتب عنها “عجائب الآثار فى التراجم والأخبار”.

15

محفوظ والجبرتي

ثمة تشابه بين تأريخ  عبد الرحمن الجبرتى ونجيب محفوظ للقاهرة مع اختلاف الحقب، إذ جاءت مصادرهما مباشرة من واقع الحدث الاجتماعى والسياسى، وإن ابتكر الأخير لكونه استطاع أن يقولب تأريخه فى فن الرواية؛ حيث جسد أحياء وشوارع  وأزقة ومشربيات القاهرة فى أعمال روائية نابضة بالحركة ما بقى التاريخ.

20000

ولعل المستشرق الإسبانى “بدرو مارتينث” استشف علاقة منجز نجيب محفوظ المتوطدة بأحياء القاهرة والصورة الحية التي سطرها في رواياته، فقال “كل الطيور اليمام التى تعبر وتسكن سماء القاهرة من الفسطاط إلى الزمالك، ومن الروضة إلى القلعة، ومن السيدة زينب إلى بين القصرين، ستغنى باسم نجيب محفوظ، وسيذهب معها محفوظ فى رحلته الأبدية والنهائية طائرا إلى مكان أكثر عمقا ورحابة فى قبة السماء إلى أحشاء الأرض، بلادك مصر، ستهدى كل الطيور بالطريق الذى سترشده أنت إليها”.

18

محفوظ بين الأدب والفلسفة 

تخرج محفوظ فى كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1934، بعدها تنازعته عشيقتان؛ الفلسفة التى همَّ أن يكتب عنها أطروحته “الجمال فى الفلسفة الإسلامية”، والثانية الأدب، لكن غواية الأخيرة كانت أكثر جاذبية فتخطفته من غريمته الأولى وإن لم يهجرها، فزاوج بينهما فى جنبات الشعب الذى عرفه عن قرب فى الحارات والشوارع القديمة، ونحت تمثالا جبارا من الصلابة والجمال، صنعه بخامات شتى من الحرفيين الضائعين والفتوات المتغطرسين والدراويش والمتصوفين الهائمين.

6000000000000

مرت كتابات محفوظ بعدة مراحل وفق ما ارتأى الراوى، بدءا من عام 1939 فى “ثلاثية الواقعية التاريخية” (عبث الأقدار ــ  رادوبيس ــ كفاح طيبة )، مرورا بعام 1945 حيث اختط لنفسه مرحلة الواقعية المعاصرة فسطر (القاهرة الجديدة وخان الخليلى وزقاق المدق) وانتقل بعدها للواقعية النفسية (السراب)، وتجاذبته “الواقعية الاجتماعية (بداية ونهاية وثلاثية القاهرة)، بعدها تلبسته الرمزية فنسج “الشحاذ وأولاد حارتنا”، وامتلكته الفانتازيا فأعاد حكايا “ألف ليلة وليلة” وروى ملحمة “الحرافيش” وفى نهاية مسيرته العملية استلبته الروحانية والصوفية روحه فتلاشى فى “أحلام فترة النقاهة” و”أصداء السيرة الذاتية”.

 

المِخلـب

“أصاب الضر بدنه، وتملكت الأوجاع من روحه، صار جسده عبئا علي قدميه، تأمل حياته وهو يقف في مفترق طرق تتفرع منه عدة مفترقات كل منها يؤدي إلي طريق سفر لا عودة منه، كان الاكتئاب أول من التقطه في مفترق الطرق، اختطفه كصقر جارح وجد فريسته، اختطفه بمخالبه من دون رحمة، وهو يؤثر الوحدة ،كي لا يعكر صفو أحد وسط محرقة الحياة، التي لم تعد تبالي بصراخ الموجوعين، ولم يعد لديها أجوبة علي تساؤلات الحياري التائهين، والتزمت الصمت في وقت يجدر بها الحديث، فكان حق له أن يطلق عليها الرصاص، ويــُـنهي أمر أوهام تعشش كالعنكبوت علي جدرانها”.