أرشيف التصنيف: محاورات نقدية

الموقف السلفى من الرواية

كان الموقف الثقافى الرسمى من الرواية في القرن التاسع عشر صادما فى مصر، وفقما تسجل موسوعة السرد العربى، فقد حذر الخطاب الدينى والإصلاحى آنذاك من “مخاطر قراءة الروايات”، لما تتضمنه من أوهام وخرافات، وحب وغرام وميل إلى الشهوات، على أن الأمر يزيد التباسا إذا تعلق بموقف الروائيين أنفسهم من الرواية، بعدما هددتهم الثقافة السائدة وقتها بتراجع مكانتهم الاجتماعية، بل وصل الأمر إلى تخوفهم من احتقار المجتمع لهم، فنجد محمد حسين هيكل يتنكر من رواية “زينب”، فى أول الأمر، كما أنكر نجيب في ثلاثينيات القرن العشرين أنه صاحب النصوص المنشورة أمام زملائه خوفا على سمعته، وفقما سجل رجاء النقاش في كتابه “نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته”.

محمد عبد المطلب: الحداثة لا تصلح لـ”النص العربي”

د.محمد عبد المطلب: بعض النقاد العرب جنوا على تراثنا النقدى

المدرسة العربية أسهمت فى منجز النقد الإنسانى

  • بعض “مناهج الحداثة” ليست صالحة لقراءة النص العربى لاختلاف الثقافتين
  • النظريات النقدية الحديثة لها إرهاصات فى النقد العربى القديم.. وراجعوا ما دوَّنه “الجرجانى”
  • نظرية عبد القاهر فى المعنى أذهلت ريتشاردز بعد صدور كتابه “معنى المعنى”
  • النهضة الأدبية تستدعى نهضة نقدية موازية.. وتلك خارطة النقاد العرب
  • معظم رواد النهضة النقدية تتلمذوا على “وسيلة” المرصفى
  • جمعتُ بين المنجز الحداثى والموروث العربى بحثًا عن منطقة الحياد النقدى
  • عزلة بعض النقاد المحافظين رد فعل لمبالغة نقاد الحداثة
  • قراءة التراث بمحبة.. اعتماد التراكم لا الانقطاع.. الالتزام بالتخصص.. توصياتى لشباب النقاد
  • الشعرية العربية لم تعرف الجمود.. وتحولاتها خير شاهد
  • شعراء قصيدة النثر غامروا بترك الإيقاع بحجة أنه وسيلة وليس هدفًا
  • إصدار أحكام القيمة فيه إجحاف لحق القارئ.. ولى مبدئى النقدى
  • قدمت السرد النِّسوى دفاعًا عن الثقافة العربية.. وهذه مغالطات الغذامى
  • تقنيات علم السرد أصابت النقاد بالكسل.. وحولت النص لجسد لا حيوية فيه
  • خدعنا بمقولة “موت المؤلف” وغفلنا أن لدينا “قرآنا” لا يموت مؤلفه
  • الترجمة غواية عند بعض المبدعين.. وجمهرة ما يترجم للفرنسية لا يتعدى النسخ العشر
  • دور النشر تقدم “الأكثر مبيعًا” لا الأكثر جودة

 

مقدمــة

“فارس” من فرسان النقد الأدبى، ابن بار للأصالة العربية المعاصرة، أكرمها، فلم تضن عليه؛ ووهبته نصيبا وافرا من ميراث حرفها العربى، أخلص لها، وتلاشى فى معانيها، فباحت له بجواهرها وأسرارها، شق طرقا وعرة مدركا صعوبة دروبها؛ إذ عكف على رصد المنجز الحداثى بترقب، وضفَّره بتراثنا العربى فى ضفيرة نقدية واحدة, وبدأبٍ صار من كبار رواد الأسلوبية فى العالم العربى، فنجا ووصل إلى منطقة “الحياد النقدى” الذى طالما كان غايته المنشودة.

“الثقافة الجديدة” التقته للعكوف على رؤى ناقد أفنى عمره فى بحور الشعر العربى ليغوص ــ بعمقه المهنى المتأنى ــ فى تحولات الشعرية العربية، وصولا  لقصيدة النثر وإشكالاتها.. أدار دفته قبالة الرواية والقصة ليتدارك ما فاته عبر علم السرد، بما له وما عليه, ويقف بنا على حافة النهر النقدى ليبين عن بعض المغالطات التى جرت فى مجراه مصوبا إياها، ويبسط إزاءنا خارطة النقد المعاصرة ليوضح معالم أجيالها ومواقعهم، نازعا الأقنعة عن المشهد الثقافى الآنى، كاشفا عنه ضبابية الصورة، وزيف شعارات على شاكلة “الأكثر مبيعا”، و”تُرجم إلى الفرنسية”، غير غافل خديعة الترجمة ووهم العالمية لدى مبدعينا، وقضايا أخرى ذاث ثقل ثقافى نطالع آراءه فيها فى ثنايا هذا الحوار.      

 

تراثنا النقدى والحداثة المعاصرة

  • فى تقديرك النقدى.. هل أسهمت المدرسة العربية فى منجز النقد الإنسانى؟

 

ــ لو دققنا النظر فى ثنايا إرثنا النقدى، وتابعنا مسيرة منجز النظريات الحديثة، فى رأيى، سنلحظ أن ثمة أصداء من الأخيرة وردت فى مدرسة النقد العربى، وإن لم تكن مكتملة الأركان كما فى النظريات الحديثة مع الأخذ فى الاعتبار الأبعاد الحضارية والإمكانات المتوافرة لكل عصر وخصوصيته، ومعروف أيضا طريقة العرب الأوائل فى التدوين حيث المداخلات المعرفية والاستطراد الكثير وهو ما يجعل استنباط أفكارهم ومعارفهم النقدية يحتاج إلى باحث محب عاشق لهذا التراث، صابر على مشاقه، خبير بطريقته، حذر فى كل ما يقرأه،ولكن لو صبرنا على هذا سنخرج بنتائج وملاحظات نقدية مبهرة، فللتراث قداسته التى تجعله يتمنع على من لا يُقدِّره حق قدره، ولا يخرج لآلئه إلا لمن غاص كثيرا فى أعماقه، وقتها يهبه الكثير والكثير من ثرواته اللغوية والنقدية.

 

ولى تجارب خاصة مع التراث، خلصت منها إلى أن للمدرسة العربية إسهاما لا يغفل فى منجز النقد الإنسانى، لكن تعالى بعض النقاد عما حواه هذا التراث المجيد وظلمهم له هو ما أضر به، فلو نظرنا فى مدونات تراثنا النقدى نلحظ أنه قدم لنا إجراءات نقدية متباينة، بعضها يغرق فى الفطرية والانطباعية، وبعضها ينحاز إلى الموضوعية العلمية، وبعضها يوازن بين الانطباعية والموضوعية، وكلها قدم صورة مليئة بالحيوية والنشاط الأدبى والنقدى. وطالع مثلا البدايات المبكرة للدراسات النقدية والتى تجلت فى الدراسات القرآنية، حيث مهدت ــ الدراسات القرآنية تلك ــ  الطريق لمسيرة النقد العربى، إذ اهتمت ببعض التحليلات والتراكيب اللغوية والصياغية، وقد كان هذا هو الداعى الأول لظهور كثير من الأفكار النقدية.

 

 وأحسب أننا لو دققنا النظر فيما قدمته العقلية النقدية العربية بدءا من “معانى القرآن” للفراء بما  تناوله من طرق التعبير وخواصها التركيبية، مثل التقديم والتأخير والإيجاز، وبعض الصور البيانية، و”مجاز القرآن” لأبى عبيدة، حيث كانت بداية توظيف مصطلح المجاز بشقيه اللغوى والبلاغى، و”صحيفة” بشر بن المعتمر، وما أضافته عن الثلاثية الإبداعية (المبدع/ المتلقى/ الرسالة)، و”البيان والتبيين” للجاحظ وإسهامه فى التجانس اللفظى والتلاؤم الحرفى، و”نقد الشعر” لقدامة بن جعفر، وهى المرة الأولى التى يظهر فيها مصطلح نقد عنوانا لمؤلف تراثى، و”الكامل” للمبرد وإخلاص الرجل فى تناول الناتج الدلالى مع ميله الواضح إلى المعنى المحدث، و”الصناعتين” لأبى هلال العسكرى وما قدمه فيه من بحوث نقدية خالصة مصحوبة بأخرى بلاغية، وما ابتكره الناقد الفذ عبدالقاهر الجرجانى فى كتابيه “أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز”، وما أسفرت عنه من أدوات ,إجراءات نقدية على شاكلة: (الاقتباس/ التقسيم/ الحقيقة/ المجاز/ بناء الصورة/ الطباق/ المقابلة/ حسن المبادئ والخروج/ النظر فى البنية الشعرية من حيث الناتج الدلالى والقيم الموسيقية) وكثيرة هى لو وقفنا نحصيها، لوجدنا أن مجموع المدونات هذه تثبت فى معالجتها أنها متعددة المناهج والأهداف فبعضها التزم المنهج التاريخى، وبعضها التزم الوصفى، وبعضها اتجه إلى النقد العام، وبعضها اتجه إلى رصد مآخذ الشعراء وتعديد سقطاتهم، وبعضها إلى الموازنة بين الشعراء، وبعضها أخلص للبناء البيانى بأشكاله ورسومه البلاغية، مع الأخذ فى الاعتبار أنها ليست بهذا الوضوح بين طياتها ولم تكن بلورتها ناضجة كما نوضح معالمها هنا.

 

بيت قصيدى أن هذه المسارات المختلفة انتهت إلى ظهور خطاب نقدى على أسس لغوية أفاد من الحقائق العلمية فى الدرس اللغوى والنحوى والوعى الجمالى فى الدرس البلاغى القرآنى، ووظف ذلك فى قراءة النص الأدبى قراءة فيها من الموضوعية بقدر ما فيها  من الذاتية وفيها من الوصفية بقدر ما فيها من المعيارية وهو ما يمكن أن يمثل الإضافة العربية للخطاب النقدى بعامة.

 

والحق إن جمهرة النقاد العرب بالغوا كثيرا فى إسهامات النقد الأوروبى، فبينما يرددون إسهامات مدارس النقد الأدبى الروسية والفرنسية والإنجليزية والأمريكية، فيستهلون حديثهم بقولهم: (قال باختين، قال بارت أو تودروف أو ما شئت من أعلام نقد الحداثة وما بعدها)، نجدهم أغفلوا تماما إسهامات المدرسة العربية وقليلا ما نجد أحدهم يقول (قال الجاحظ، أو أبوهلال العسكرى أو ابن رشيق أو القرطاجنى أو الجرجانى) وإن كنت ألحظ ثمة عودة وصوتا هامسا لأصداء أعلام النقد العربى.

 

ولا أخفيك سرا،فكثيرا ما ترتعد فرائصى، كلما سمعت طائفة من نقادنا، أو قرأت لطائفة أخرى، بأن بلاغتنا وتراثنا غير صالح لقراءة إنتاج عصرها!.. صحيح أن أدوات النقدية العربية لا تصلح كلها، ولكن هذا لا يعنى أن أنكرها أيضا بالكلية، ففيها قليل من الجمل تختزل نظريات حديثة بأكملها، ولكن كما قلت تحتاج إلى خبرة وممارسة وحذر ومحبة.. فى بدء طريقى النقدى وجهتنى بوصلة البحثية إلى البلاغة العربية، وللأمانة كان من وجهنى إليها أستاذى الدكتور عزالدين إسماعيل، إذ أوصانى بتنويره المعهود عليه أن أحاول البحث فى الأسلوبية العربية، وقد كان، ولاحظت امتزاج النقد بالبلاغة  فى انسجام محكم، حيث إن أركان القراءة النقدية الواعية لا تكتمل بدونهما معا، على الرغم من أن لكل منهما منحى خاصا، فالبلاغة تعتمد الرصد الشكلى خلال إجراءاتها الوصفية حينا والمعيارية حينا آخر،  ثم يأتى النقد ليمارس عملية التقييم ليحكم بالجودة وسواها، وعلى هذا فلا غنى لهذه عن تلك، كذا أدركت صلاحية المدخل اللغوى للتعامل مع النص عموما والنص الشعرى خصوصا إذ قرأت الشعر وناقشته من منطلق بديعى، فالأسلوبية العربية توصلت إلى أن القراءة البلاغية الممزوجة باللغة لاتزال قادرة على تقديم قراءة نقدية لها قيمتها وثراءها،ولكن، سامح الله بعضا من نقاد العربية، فقد  جنوا على  تراثهم كثيرا وافتروا عليه افتراء بينا، فمنهم من تجاهل دور العرب وقزَّم من إسهاماتهم إلى حد التلاشى، ولو أنهم طالعوا “جمهرة أشعار العرب” وما سجله أبوزيد القرشى من ملاحظات نقدية رغم ما على الكتاب من مآخذ، لراجعوا أنفسهم كثيرا، ومنهم من جنوا عليه بجهالتهم به، ومنهم من هجره لقصر نَفسهم البحثى، وتكاسلهم وإغفالهم دورهم المنوط به، وقليل من أخلص ليثبت مدى فاعليته ومنجزه النقدى فى مسيرته الإنسانية.      

 

  • من حيث انتهيت نبدأ لنقف بين التراث والحداثة، فهل ثمة أصول فى تراثنا النقدى لقضايا الحداثة، بمعنى هل نجح العقل العربى فى الوصول إلى منجز يمكن أن نطلق عليه عتبات “منجز حداثى” ولو من قبيل المجاز؟

 

ــ من قبيل الأمانة العلمية هى ليست أصولا بالمعنى المراد، بل يمكن أن نصطلح عليها إرهاصات فلم يصل الفكرى النقدى العربى للمرحلة ذاتها التى وصلت إليها المدارس الأوروبية، خذ مثلا عبدالقاهر الجرجانى، فلو طالعت “دلائل الإعجاز” أو “أسرار البلاغة” ستجد قضايا الحداثة ولكنها ليست كما هى موجودة على شكلها الحالى بالظبط،ستجد الجوهر وإن اختلف المصطلح، لقد أفاد عبدالقاهر بما فى النحو من إمكانات تركيبية ووظفها بشكل مباشر فى محاولة خلق نظرية لغوية فى فهم الأسلوب من حيث كان النحو خلفا للنسق التعبيرى الذى يحقق المزية والفضيلة بجانب الصحة والسلامة.

 

وأعتقد أن عبد القاهر نجح فى ذلك نجاحا غير محدود حيث استطاع من خلال مفهومه للنحو أن يستكشف جوانب خصبة فى التراكيب فربط بين نظامها بالفكر اللطيف، وكان ذلك مدخله لمناقشة قضية الإعجاز القرآنى وأطلق على نظريته كلمة دقيقة هى “النظم”، وبهذا نال الغاية، وحقق جوانب النظرية والتطبيق فمن حيث التنظير فقد فرق بين اللغة والكلام بشكل محدد وأعتبر الألفاظ رموزا للمعانى وأن الفكر لا يتعلق باللفظة المفردة وإنما يتعلق بما بين المعانى من علاقات، وعبدالقاهر بهذا يكاد يتوافق مع الأسلوبيين المحدثين فى كثير من مباحثه خاصة فى الإمكانات الاستبدالية والقدرة التوزيعية، وفى مقولتهم عن انتهاك اللغة وانحرافها عن النمط المألوف، وذلك بإخضاعه المجاز لسيطرة النحو وعلاقته التركيبية، إن لم نقل إنه جاوزهم بمقولته عن “تجدد المواضعة” تبعا لتجدد الاستعمال، ومن حيث التطبيق قدم الرجل كثيرا من النماذج محللا لها كاشفا عن نظامها النحوى موضحا للعلاقات التركيبية لهذا النظام وما لكل ذلك من أثر فى الدلالة وصولا إلى فردية الاستعمال وما يترتب عليه من وجود مناطق نحوية أثيرة يتحرك فيها كل مبدع خاصة فى المجال الشعرى غير أن هذا الجهد الوفير شابه الوقوف عند حدود الجملة الواحدة مما جعل دراسته مبتورة فى كثير من أجزائها.

 

ويقودونى حديثى هذا لرواية لها دلالتها حكاها لى الدكتور على شلش: فحينما كان فى بريطانيا يعد لدراسة الدكتوراه وكان المشرف عليها ريتشاردز المؤلف المشارك مع أوجدن لكتابه “معنى المعنى” ناقشه الدكتور شلش بعد اطلاعه على مصنفه قائلا له: فى تراثنا النقدى من تحدث عن بعض جوانب نظريتك تلك فى القرن الخامس للهجرة، وكان يقصد عبدالقاهر الجرجانى، فذهل الرجل، وطلب منه أن يأتى له بنسخه من كتابه، وحينما عرضها عليه، وعده ريتشاردز أن ينوه إلى ذلك فى طبعة الكتاب الثانية، ولم يحالفه الحظ وانقضى أجله قبل الطبعة الثانية.

 

 ومن الغريب أيضا أن بعض باحثى الأسلوبية يصر على توظيف مصطلح كـ”الانحراف” فى حين وظفه الجرجانى تحت اسم “العدول”، فلماذا نصر على كلمة الانحراف رغم ما تحمله من أبعاد لغوية غير سوية فى لغتنا ونستخدمها لمجرد ترجمتها رغم أننا نمتلك بديلا لها أكثر دلالة واتصالا بخصوصية ثقافتنا، ومن المؤسف  أيضا أن نسمع أحد كبار النقاد يُجرِّح فى منجز الرجل النقدى، واصفا إياه بكلمات أقصى ما يقال عنها أنه لم يقرأ عبدالقاهر ولم يطلع عليه اطلاعا كافيا.

 

  • القول بالقول يذكر.. مادمنا فى رحاب المدارس النقدية.. فللدكتور عبدالعزيز حمودة ــ رحمه الله ــ وهو ربيب الفكر الغربى، موقف من المناهج النقدية الحديثة فى ثلاثيته النقدية، وتبنيه مشروعا شعاره: “نحو نظرية نقدية عربية” ما تعقيبكم على هذه التجربة؟

 

ــ الحقيقة إن الغاية من وراء تصنيفه هذا غاية نبيلة، كما أن الجهد فى الكتاب واضح وضوح الشمس فى نهار البادية، وهو جهد يحسب له، ولكن هذا لا يجعلنا نغفل الثغرات التى وقع فيه الرجل، ففى البدء دعنى أسجل أن العلم لا جنسية له، فمقولة نظرية عربية غير موفقة، فلم نسمع عن نظرية ترتبط بلغة معينة، فالنظرية ترتبط بالثقافة وليست باللغة، وكل النظريات والأفكار تدور فى فلك المنجز الإنسانى، ولكن كان الرجل محقا فى بعض من مآخذه، وأذكر أننى ناقشت الدكتور كمال أبوديب، وهو صديق عزيز، فى كتابه “جدلية الخفاء والتجلى” وقد تناول فيها قصيدة امرئ القيس بقراءة بنيوية كانت مثار جدل، وهو أحد الكتب التى بنى عليها حمودة دراسته وقال لى بعد طول نقاش: “تلك هى أخطاء الريادة عليكم تجنبها فى الدراسات اللاحقة علينا، ولكنه حب المغامرة النقدية الذى نظن أنه سيضيف إلى المنتج النقدى إذا عكفنا على تنقيحه”.

ورغم نبل الغاية كما سبق وقلت فإن حمودة لم يستوعب التراث النقدى العربى كما ينبغى، وكنت والدكتور عبدالقادر القط فى مكتبه حينما صدر الجزء الثانى من ثلاثية عبدالعزيز النقدية، وقرأ الدكتور القط فى مقدمته ما معناه على لسان حمودة: و”بعد أن استوعبت تراث العرب النقدى”، وكان هذا بعد عام من صدور “المرايا المحدبة”، فقال الدكتور القط: “لقد أسقط الكتاب فى مقدمته، أيستوعب تراث العرب النقدى فى عام واحد ولى خمسون عاما أنهل منه ولم أقف على شاطئ له”.

 %d8%b9%d8%b5%d9%81%d9%88%d8%b17

  • ماذا عن تصوركم لخارطة الأجيال النقدية فى عالمنا العربى وأعلامها؟

 

ــ  أثبتت مجريات الأحداث الثقافية مبدأ فى غاية الأهمية تمثل فى أن ” النهضة الأدبية تستدعى دائما نهضة نقدية موازية لها”، وانظلاقا من تلك القاعدة نلحظ  بزوغ شمس هذه النهضة مع مجموعة من الرواد الذين تشبعوا بالتراث النقدى العربى، وفى تصورى أن أجيال النقد العربى الحديث جاءت فى مراحل نقدية ثلاث: الأولى منها تمثلت فى “مرحلة النهضة”، وبدأها أديب إسحق عام 1855، إذ يكاد يبشر ببعض الفكر الأسلوبى عندما لاحظ  دور الأسلوب فى تقديم الفكر للمتلقى وأن الأساليب تتمايز فلكل إنسان أسلوبه الذى يتوافق مع شخصيته ومن هنا جاء التمايز، وجاء الشيخ حسين المرصفى عام 1890 ليصنف كتابه الأم “الوسيلة الأدبية” وأظننى لا أجاوز الصواب إذ قلت إن معظم رواد النهضة الأدبية والنقدية قد تتلمذوا على “الوسيلة”، حيث استعاد الرجل تقنيات تراثنا النقدى والبلاغى وأعاد صياغته فى مصنفه هذا، وتبعه على مبارك بدعوته إلى تحرير الأسلوب من قيود الصنعة وعوار الركاكة والضعف، ومحمد دياب وحمزة فتح الله والمويلحى وسيد المرصفى، ومجمل ما قدموه كان نقدا لغويا ليس بالمعنى الشامل للكلمة، بل بمعنى السلامة من اللحن وملاءمة اللفظ  للمعنى والسياق.

 

وقد كانت مرحلة النهضة تلك مخاضا لمرحلة التجديد، إذ  أشرقت علينا طائفة أخرى من النقاد نادوا بتطور النقد وتجديده وفقا لمتطلبات واقعهم الثقافى والسياسى والاجتماعى، وقد أدركوا مبكرا أن التجديد ليس معناه القطيعة مع السابق، فاعتمدوا التواصل ثم التدخل بالحذف والإضافة، حذف ما فقد الصلاحية، واستبقاء ما يصلح، وإضافة ما يستجد، وتعديل ما يحتاج إلى تعديل، وقد كانوا محقين فى هذا، فلا يبدأ كلام من صمت وإنما يبدأ من كلام سابق وكل ظاهرة لا تبدأ من فراغ، وإنما من ظواهر سابقة، وقد انقسمت جماعة المجددين تلك إلى فئة المحافظين وهى الفئة التى تعصبت إلى أصول التعبير الموروثة وأشكال البيان المحفوظة، ومن أعلامها المنفلوطى والرافعى وأحمد حسن الزيات وشكيب أرسلان، وفئة المجددين وقد آثرت الإفادة من كل المصادر المتاحة دون أن يفقدوا أصالتهم بمعناها التنويرى، ومن أعلامها المازنى والعقاد وطه حسين وميخائيل نعيمة.

 

وتأتى المرحلة الأخيرة لتكلل هذه وتلك، تمثلت فى التيارات الوافدة  و”النقد الحداثى” انغمست مع بدء ظهورها فى الواقع الغربى ففى السبعينيات والثمانينيات عكف بعض النقاد على نقل الثقافة النقدية الغربية (التاريخى/الاجتماعى/ النفسى/ التأثيرى/ الجمالى/البنيوى/ السيميولوجى/ التفكيكى) وكان أعلامها شكرى عياد ومحمد مندور ومصطفى سويف، ومصطفى ناصف وعبدالقادر القط وعلى الراعى، وعز الدين إسماعيل وغنيمى هلال، وزكريا إبراهيم وصلاح فضل وكمال أبوديب وجابر عصفور، وفى المغرب محمد بنيس، وراحت مجلة فصول تدلى بدلوها فى إرساء أسس الفكر البنيوى، وإجراءاته التطبيقية،وعند التطبيق وجدنا أن النص العربى لا يتقبلها تماما لاختلاف الثقافتين، فبدأت مرحلة جديدة كانت رد فعل عنيف للأولى إذ انكفأت على ذاتها وانغلقت على نفسها لتعيش فى عزلة تقودها إلى الجمود ثم الموت، وكانت أشبه بأصالة مزيفة، وعلى إثرها ظهر تيار “الأصالة المعاصرة” والتى حاولت  أن تقف فى منطقة “الحياد النقدى” حيث لم تنغلق على تراثها لترى فيه كل الخير، ولم ترفض كل جديد بدعوى أن فيه كل الشر، وحاولت أن تجمع بين المنجز الحداثى والموروث العربى، جمع توفيق لا جمع تلفيق، جمع تسامح لا جمع تعصب، جمع تحاور لا جمع تخاصم، تمثلت فى الأسلوبية والأسلوبيين، فالأسلوبية أرض خصبة بعطائها الوصفى والتحليلى، وهو عطاء وثيق الصلة بموروثنا اللغوى والبلاغى، وهذا العمق التراثى هو الذى أتاح للأسلوبية أن تحل فى نقد الحداثة العربية وأن يتكاثر أنصارها وروادها منذ جاءت بواكير التبشير بها فى كتابات أحمد الشايب والرافعى والزيات وإشارات غنيمى هلال ومحمد مندور ولطفى عبدالبديع وعزالدين إسماعيل، ثم استقرت الأسلوبية على المستوى النظرى مع كتاب عبدالسلام المسدى “الأسلوبية والأسلوب” وعلى المستوى التطبيقى مع محمد الهادى الطرابلسى وكتابه “خصائص الأسلوب فى الشوقيات” ثم تتابعت الدراسات النظرية والتطبيقية التى أعطت الأسلوبية بعدا مركزيا فى الخطاب النقدى الحداثى كما هو ملاحظ فى كتابات شكرى عياد وصلاح فضل وسعد مصلوح وكتاباتى.

 

  • وبم توصى شباب النقاد؟

 

ــ أقول إن النقد أو الإبداع أو الثقافة قائمة على التراكم لا الانقطاع، فلا جديد لمن لا قديم له دون أن يكون هذا القديم شرطا للجديد، لأن الجديد لا ينتج من فراغ فكل جديد هو ابن شرعى لما سبقه من مراحل، ومن ثم يصعب القول بوجود فواصل زمنية حاسمة بين الأزمنة النقدية، وأتوجه بالقول لمن يدعون إلى القطيعة مع تراثنا النقدى ويرون أنه صار غير صالح بالكلية أن يقرأوه بحميمية وحب، وإخلاص، وقتها سيبوح لهم بأسرار لم تكن لتخطر ببالهم، ففى دعوتهم تلك مع تراثنا كأنهم يقولون إننا أبناء بلا آباء، أو أنهم مغرمون بقتل الأب، وهو ما يمكن أن يسم ثقافتهم بأنها ثقافة لقيطة من أين جاءوا بها؟ لا ندرى، وإلى أين يمضى؟ لا ندرى أيضا.

والخطير فى هذا الوعى أنه يشير إلى شىء غير قليل من التناقض المنهجى، إذ كيف لا يعتمد النقاد العرب إرثهم النقدى مستندا شرعيا لهم وفى الوقت نفسه يحسبون على الحركة الثقافية العربية بوصفهم حلقة مكملة فى حلقات تقييم النص العربى. يجب أن يستند الناقد الأدبى ــ إن أراد أن يكون ناقدا حقا ــ إلى ركائز تراثية تحفظ له انتماءه الأصيل لتراثه، غير غافل ما يستجد من نظريات فالأصالة الحقة تعتمد التواصل مع التراث والانفتاح على الوافد الجديد.  

توصيتى الثانية: التخصص، فعل الناقد أن يلتزم بتخصصه فحسب، فمن الغرائب أنك تجد بعض النقاد يتحدث فى أمور العامة والخاصة، وكأنهم أوتوا جوامع الكلم، وكأنهم استنفدوا قراءة التراث، أولى بهم أن يأووا إلى ركنه الخصيب ليعايشوا حروف العربية ويهبوا له من وقتهم ما يجلى سحرها، شعرا كان أم نثرا، وأنا شخصيا عندما يطلب منى الحديث عن المسرح أعتذر وهذا ليس عيبا لأنه ليس تخصصى.

 

الموروث الشعرى وقصيدة النثر

  • استحوذ فن الشعر على نصيب وافر من مصنفاتك، وصبت تيارات شتى فى بحور الشعر العربى ماذا عن خارطة بحور هذه التحولات فى الشعرية العربية؟

 

ـــ لم تعرف الشعرية العريية الثبات والجمود فى مسيرتها الطويلة، بل إن أهم ما يميزها أنها كانت تتجدد نفسها لتتوافق مع ظرفها التاريخى وكانت ترحل من زمن لآخر حاملة ركائزها الأساسية ثم تضيف إليها أو تحذف منها أو تعدل فيها وفق الشرط الحضارى المصاحب لها، وأقصد بالركائز الأساسية هنا تلك الركائز التى بنى عليها الشعر العربى وهى أربع، أولها الموسيقى العروضية وثانيها اللغة وثالثها الخيال وبناء الصورة ورابعها المعنى وقد تعجبون أن المعنى هو آخر شىء فى ركائز القصيدة العربية، وذلك يرجع إلى مقولة الجاحظ الخالدة: “المعانى مطروحة فى الطريق يعرفها العربى والأعجمى، وإنما الشان للصياغة”، فالجاحظ يرى أن الشعرية تتمثل فى الصياغة لأن المعنى من الممكن أن يعبر عنه كل الناس.. ولكن كيف عبرت عن هذا المعنى؟ هنا بيت أسرار الشعرية.

وبتأمل هذه الركائز الأساسية وعرضها على تراثنا الشعرى سنجد أن الموسيقى هى الركيزة الأولى فى الموروث العربى وكان الشاعر يفتخر بإجادته للموسيقى مع الاحتفاظ بالضرورات الشعرية، ظلت الشعرية العربية محافظة على هذا الترتيب طوال قرون حتى العصر العباسى، هنا  ظهرت بعض محاولات التجاوزات العروضية القليلة أو قل التجديد فى بحور الشعرية العربية على يد بعض الشعراء المجددين على شاكلة أبى نواس وبشار بن برد وأبى تمام  والمتنبى، وبعدها ضرب الجمود جنبات مدينة الشعر العربى، وتلاحقت أزمنة الشعر وضاقت مساحتها الزمنية فى العصر الحديث فظهرت الإحيائية وحافظت على ترتيب هذه الركائز، إلى أن جاءت الرومانسية فأحدثت تعديلا فى هذه الرباعية حيث قدمت المخيلة على غيرها من الركائز، إلى أن جاءت الواقعية فأحدثت تغيرا آخر وقدمت اللغة على غيرها من الركائز، وجاءت مرحلة الحداثة وقامت بإسقاط العروض نهائيا واعتمدت اللغة والخيال وحدهما للشعرية الحداثية، وهذا التلاحق إشارة بالغة على عظمة هذا الفن وتجدده ذلك أن الاستقرار والسكون قد يكونان من علامات الضعف المنذر بالموات.

 

  • بعد بسطك إزاءنا خارطة الشعرية العربية بثرائها وتنوعها.. ما الذى تتوقعه للشعرية العربية بعد ذلك؟

 

ــ الإجابة متروكة للزمن، وإن كنت من خلال اشتراكى فى تحكيم المسابقات فى مصر والعالم العربى ألحظ عودة العمودية مرة أخرى وكأن الشعر يدور فى حلقة مفرغة بدايتها هى نهايتها والعكس.

 

  • تناولت فى سردك هذا، تيارات شعرية متنوعة، فهل من بينها ما أسهم فى تطور أو تراجع القصيدة العربية.. بمعنى هل صبت هذه التحولات فى صالح بحور الشعر العربى أم كان لها أثرها فى النيل منها؟

 

ــ كل تحول كان رد فعل لما سبقه، وكلٌ له خواصه، ولا ينتقص تحول من آخر، فكل منها كان استجابة فنية لمعطيات حقبته التاريخية، ولسان صدق فنى عن متطلبات وحاجات التطور الفنى لحضارية عصره، خذ مثلا شعرية الإحيائيين تجدها كانت رد فعل للواقع الشعرى فى العصر العثمانى وما كان من هزال وضعف فنى ثم جاءت الرومانسية رد فعل لشعرية الإحيائيين التى اعتمدت النموذج القديم اعتمادا مطلقا وأعلت العقل وجعلته حكما فى الجمال الشعرى وهو الجمال الموروث تقريبا فإذا بالرومانسية تعلى العاطفة والتحرر الوجدانى والخيال ورفض تحكيم النموذج القديم وجاءت الواقعية رد فعل للرومانسية حيث ارتباطها بالواقع فى كل تحولاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ورفض الجنوح الرومانسى الخيالى والعاطفى، وظهرت مدرسة المهجر بكل إجراءاتها التجديدية لتمثل إضافة هائلة لمسيرة الشعرية العربية.

 

 هذا التلاحق فى المراحل الشعرية أخذ يميل شيئا ما إلى الاستقرار مع سيادة مرحلة التفعيلة التى أنجزت مغامراتها الإبداعية مع الوزن والقافية وهجرت البحر الشعرى واكتفت بالتفعيلة، ومهد أصحاب التفعيلة الطريق لقصيدة النثر، إذ سمح الشعراء لأنفسهم بهجر البحور الخليلية وآثروا العزف على التفعيلة ثم انتهكوا هذه التفعيلة انتهاكات لا يسمح بها النظام الخليلى، وقد بدأت نازك الملائكة هذه الخطوة فى أولى قصائدها الحرة عام 1947، عندما استعملت (فاعل) بدلا من (فعلن) فى الخبب وهو من محرمات العروض الخليلى، لكنها استعملتها، وأجادت فيه فنيا، إذن شعراء التفعيلة غامروا مع التفعيلة.

 

وجاء الجيل التالى (أقصد شعراء قصيدة النثر) وغامروا بترك الإيقاع ولهم حجتهم فى ذلك: إذ أعادوا صياغة رباعية المكونات الشعرية التى تحدثنا عنها (الموسيقى/ اللغة/ الصورة/ المعنى) فى تساؤلهم هل الايقاع العروضى هدف أم وسيلة؟، وقالوا إن الإيقاع وسيلة ومن حق الشاعر أن يعزف على ما يناسبه، والعربية ليست كل إيقاعاتها فى العروض، ففيها ظواهر نحوية وصرفية وغيرها، وأول من استخدمها امرؤ القيس وبدأها مع الحروف، والشعر الأندلسى كان مغرما بالإيقاع الحرفى، فالإيقاع وسيلة وليس هدفا، ومن ثم لهم أن يختاروا الإيقاع الذى يناسبهم نحويا كان أم صرفيا أم غير ذلك، وعلى هذا، وانطلاقا من التجريب، فقد نسج كبار شعراء التفعيلة بعضا من قصائد النثر، فى مقدمتهم نزار قبانى ومحمود درويش فى قصيدة “مزامير” ومحمد أبوسنة فى “رسالة إلى الحزن” وفاروق شوشة، وأذكر أننى التقيت درويش فى إحدى الندوات الشعرية وقلت له عن هذه القصيدة: تلك هى المرة الأولى التى حلقت فيها إلى سماء قصيدة النثر، فداعبنى قائلا: “لقد خانك التعبير يا دكتور.. بل قل تلك هى المرة الأولى والأخيرة”. وقد كان محقا فرغم إنتاجهم جميعا فى قصيدة النثر فإنهم عادوا يشدون ويمتعوننا بشعر التفعيلة مرة أخرى. 

 

  • عن قصيدة النثر نتكلم.. فلايزال الجدل على أشده بين النقاد العرب حول مدى مشروعية قصيدة النثر فى المشهد الشعرى المعاصر.. ماذا عن واقع هذا الخلاف فى تقديرك النقدى وأنت من قدم: “النص المشكل” و”مناورات شعرية” و”هكذا تكلم النص” و”شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة” وماذا عن أجيالها؟

 

ــ فى منتصف الخمسينيات ظهرت “جماعة شعر” فى لبنان ولم يكن ظهورها رد فعل لما سبقها وإنما كان ظهورها فعلا، رفع شعاره الأول رواد هذه الجماعة وأنهم “حلف المستقبل” وقد أصدر أدونيس البيان الأول لهذا الحلف عام 1960 رافعا شعاره الأول “قصيدة النثر” التى استحضرها مباشرة من كتاب سوزان برنار “قصيدة النثر” ــ وكان قد سبق هذا البيان بعض من المنجز الشعرى لقصيدة النثر ــ  وقد حدد فى هذا البيان الركائز الأساسية لقصيدة النثر من حيث كونها منتجا إبداعيا يعتمد الوعى الحضارى من ناحية والنظام الجمالى من ناحية أخرى، وهذا وذاك حققا لهذه القصيدة نوعا من الوحدة العضوية الصحيحة، كما حدد فيه مميزات مركزية قصيدة النثر متمثلة فى (الإيجاز/ التكثيف/ الإيجاز) بحسب ما سجلت سوزان برنار.  

 

وقتها ظهرت ما يمكن أن نطلق عليه “الأحلاف الإبداعية” التى تبنت ولادة هذا المنتج، فنجد مثلا (حلف المستقبل هذا) ــ وقد انحل إلى مراكز فردية تكاد تشمل  بقاعا عربية شتى ــ فمن العراق نجد (سعدى يوسف)، ومن لبنان (سعيد عقل وعباس بيضون وعبده وازن وبول شاءول) ومن سوريا (محمد الماغوط ونزيه أبوعفش وممدوح عدوان) ومن البحرين (قاسم حداد وعلى الشرقاوى) ومن عمان (سيف الرحبى) ومن المغرب (محمد بنيس) ومن فلسطين (عز الدين المناصرة وأمجد ناصر) وهؤلاء نموذج لمبدعين لا يقلون أهمية عنهم، ويؤخذ عليه أنه أغرق فى استنساخ النموذج الغربى عموما والفرنسى خصوصا ومن ثم ظهرت شعرية هذا الحلف محصورة ومحاصرة فى مكان النشأة، حتى جاءت السبعينيات وجاءت معها الهجرة الأولى لبعض شعراء التفعيلة إلى قصيدة النثر، وشكل المهاجرون حلفين رئيسيين (حلف إضاءة 77) الذى ضم حسن طلب وحلمى سالم ورفعت سلام وجمال القصاص ثم لحق بهم أمجد ريان وماجد يوسف ومحمد خلاف ومحمود نسيم ووليد منير، والحلف الآخر هو (حلف أصوات) الذى ضم أحمد طه وعبدالمنعم رمضان وعبدالمقصود عبد الكريم ومحمد سليمان ومحمد عيد إبراهيم وقد خرج من الحلف الأول بطن يضم رفعت سلام وشعبان يوسف ومحمود نسيم وكان لكل حلف مطبوعته التى تحمل اسمه وتذيع أعماله الإبداعية وعقيدته الجمالية.

 

وقد كانت أولى الإجراءات هى التمرد على الموسيقى العروضية وكأنهم يرددون مقولة أبى العتاهية “نحن أكبر من العروض” فقد ارتأوا أن الموسيقى قيد على حريتهم الإبداعية تحاصر طاقتها فهى هيئة صورية غير قابلة للتمايز من ناحية وغير قادرة على استيعاب مغامراتهم من ناحية أخرى.

 

وكان وعيهم باللغة أنها تضم كمًّا هائلا من الظواهر الصوتية التى يكمن أن تحقق للنص نوعا من الإيقاع الناتج من بنيتها اللغوية وليس من حق أحد أن يفرض هذا الإيقاع العروضى بوصفه الأداة الوحيدة لتحقيق الإيقاع، فكل قصيدة تتعامل مع الأنظمة الإيقاعية التى تناسبها دون قيد سابق، أى أن التكافؤ الصوتى أصبح بديلا للتكافؤ العروضى.

 

ويحسب لهم فى تقديرى النقدى، أنهم عندما هجروا العروض هجروه بوعى جمالى، وأدركوا أنه وسيلة وليس هدفا، ولو صح أنه هدف، لكانت ألفية ابن مالك أعظم عمل شعرى فى العربية، فالعروض مهمته توليد الإيقاع ومن حق الشعرية أن تختار أدواتها التى تحقق بها هذا الإيقاع سواء كان ذلك بالتفاعيل أم بسواها من الأدوات المنتجة للإيقاع.  

 

وأود أن أسجل هنا أن وجه الخلاف على مشروعيتها كان بين الشعراء أنفسهم أكثر منه بين النقاد، إذ رغم اتساع دائرة نفوذها فإنها ظلت محاصرة من جمهرة الشعراء العموديين والتفعيليين، وجمهرة النقاد المحافظين وبعض نقاد الحداثة، لكن الغالب على الخطاب النقدى هو تجاهل هذه القصيدة باستثناء بعض ما صنفه الدكاترة جابر عصفور وصلاح فضل ومحمود الضبع وعبدالعزيز موافى وإسهاماتى الخاصة.  

 

وقد تحول هذا الحصار إلى نوع من النفور من طبيعة هذه القصيدة بوصفها وليدا غير شرعى للشعرية العربية على وجه العموم وقد تصدى شعراء قصيدة النثر لهذا الحصار وواجهوه مواجهة عنيفة ربما وصلت إلى درجة التجريح وهو الأمر الذى نتحفظ عليه لأن الخلاف فى الرأى يجب أن يظل فى إطار الاحترام المتبادل وفى حدود المواجهة التى تعتمد الرأى والرأى الآخر.

 

وقد رأى أصحاب قصيدة النثر ومن شايعهم من النقاد أن المعارضة التى واجهت هذه القصيدة، هى استعادة لمواقف مماثلة صاحبت الشعرية فى مسيرتها الزمنية الممتدة إلى لحظة الحاضر، هى استعادة لموقف ابن أبى اسحق والأصمعى من الفرزدق، وموقف ابن الأعرابى من أبى تمام، والصاحب بن عباد من المتنبى، ثم استعادة موقف العقاد والمازنى من شوقى، ثم موقف العقاد من شعر التفعيلة.

بيت قصيدنا، أن هناك ما يجب أن نتخلص منه وما يجب أن نحرص عليه حتى تعتدل كفتا الميزان أما ما يجب الخلاص منه فهو السؤال الذى لا يفتأ يردده معظم الرافضين لقصيدة النثر: هل هذا نص موزون أم غير موزون؟ أم الذى يجب أن نحرص عليه فهو السؤال الصحيح من وجهة نظرنا هل هذا النص شعر أم غير شعر؟

 

والذى يبدو لى على المستوى النقدى هو تقبل أى ظاهرة وألا أصدر حكما بالقيمة، ففى رأيى إصدار أحكام القيمة فيه إصدار على حق القارئ نفسه، مهمتى كناقد أن أكشف الدقة والمهارة، أن أفسر وأحلل للقارئ، أن أذكر أن النص به مكونات شعرية كذا وكذا، ولا أصدر حكما، ولهذا المبدأ النقدى خطره.. وهناك نقاد يصدرون أحكام القيمة وهى مصادرة على المتلقى بالحكم لها ميزتها ولكن لها أيضا خطرها، وهذه وتلك مسألة مبدأ نقدى.

 

السرد.. ما له وما عليه

  • عن مشروعاتكم النقدية نتحدث.. قدمت “بلاغة السرد” وبعدها قدمت “بلاغة السرد النِّسوى” هل كان الأخير ردا لاعتبار الإسهام النِّسوى فى المشهد الثقافى؟

 

ــ الذى وجهنى إلى السرد أننى كنت فى ندوة بالأردن، وواجهنى أحد الحضور وقال لى يا سيدى: أنت نصف ناقد.. فاندهشت وقلت له: أنا نصف ناقد!. فقال: بالطبع، أنت رجل لا تكتب إلا فى الشعر، فأين النثر؟ فلم أرد عليه.

 وعدت وفى نيتى أن أكمل النصف الآخر، وعندما قرأت روايات اكتشفت أننى فاتنى الكثير، فالرواية تجعلك تعيش عوالم لم تعرفها ولن تعرفها وتصادف شخصيات لم تعرفها أيضا، ولا شك أن الرواية والقصة يقدمان زادا لا بد لأى مثقف أن يتزود به وليس الناقد فقط، وأذكر أننى ذهبت إلى موسكو، وإلى قرى الريف الأوروبى من خلال الرواية، وتجولت فى بلاد العالم من خلال الرواية، وعرفت كل الشخوص فى العالم من الرواية أيضا.

 ولكننى فى إقدامى على الرواية حاولت أن أستفيد بتجربتى مع الشعر لأنه فى النهاية كل هذه المواد لا تقوم إلا على اللغة فلا بد أن تكون اللغة فى المقدمة عند الناقد، فالناقد الذى لا يعرف اللغة وعوالمها لا يعرف النقد على الإطلاق.

 

 وعن “بلاغة السرد النسوى” فأذكر أنه كان بدايات قراءاتى فى النقد الثقافى، واكتشفت أن فى هذا النقد إنصافا للتراث العربى، لأننى اكتشفت أن معظم إنجازات النقد العربى القديم هى إنجازات ثقافية فيقدمون الشاعر من خلال حياته وبيئته والشخصيات التى تناولها، فكان إقبالى على النقد الثقافى وإقبالى على قراءة النصوص النسوية لأنها من أهم النصوص التى اهتم بها النقد الثقافى، حيث أشيعت وقتها مسألة تهميش الأنثى فى الثقافة العربية، وكأن لا بد أن أعيد قراءة النص النسوى لأستخلص منه بعض الظواهر التى تختص بها، وإن كنت حاولت أن أرد على عبد الله الغذامى فى كتابه “النقد الثقافى” لأنه فى كتابه هذا ظلم الثقافة العربية ظلما بينا، ظلم اللغة العربية واتهمها بأنها لغة ذكورية، ظلم الشعر العربى واتهمه بأنه شعر ذكورى، واتهم الثقافة العربية بأنها عدوة للمرأة، فكان همى فى مصنفى هذا الرد على هذه الرؤية المغلوطة للغذامى، فأثبت أن اللغة العربية لغة أنثوية وليست ذكورية كما يدعى، فاللغة العربية تنظر إلى كل المدن والقرى على أنها أنثى، فلا توجد مدينة أو قرية فى اللغة العربية مذكرة، وكذلك أيضا اللغة العربية إذا أرادت أن تعظم شيئا نسبته إلى الأنثى؛ فالفاتحة أم الكتاب ومكة أم القرى، وعندما أصف رجلا بالعلم أقول علامة، وعندما يجيد الفهم نقول فهَّامة، بل إن كلمة اللغة نفسها كلمة مؤنثة.

 

 ورأيت أنهم ــ أى من يدعون ذكورية اللغة ــ استندوا فى رأيهم هذا إلى ظاهرة التغليب، رغم أن القرآن نفسه لم يحترم تلك الظاهرة فقال:”قال نسوة فى المدينة” وقال ابن هشام جملة مهمة وهى: “العربُ تغلِّب الشىءَ على ما بينهم من تناسبٍ وليس تفاضل” وهذا كلام خطير جدا إذ ليس التغليب للأفضلية، بل تناسب فقط والعرب تذكر المؤنت، وتؤنث المذكر، فكل هذه دلائل تنفى أن اللغة العربية لغة ذكورية، الشعر العربى عندما تقول إنه شعر ذكورى، فأنت بذلك تسقط منه مائة عام من الشعر، وهو الشعر العذرى فكيف تسقط هذه المرحلة التى لا وجود  لها إلا فى الشعر العربى والتى صارت الأنثى فيها إلها، يقول الشاعر:

أرانى إذا صليت يممت نحوها           بوجهى وإن كان المصلى ورائيا 

 

فالغذامى اعتمد على منهج الانتقاء، وهذا خطأ فادح، بل إنه رد كل مثالب الواقع العربى الحالى إلى الثقافة العربية القديمة فذكر أن الديكتاتورية انتشرت فى العالم العربى رد فعل للفحل فى الشعر العربى القديم لأن الفحل الشعرى هذا لا يقاوم.. وقد التقيته مرة فى ندوة وقلت له: يا دكتور غذامى، قل لى: من هو الفحل الشعرى الذى أظهر موسولينى أو هتلر؟!.

 

 والخطأ الذى وقع فيه الغذامى سببه أنه بدأ قراءة التراث بالرفض وليس بحميمية، فقدم منهجا مختلا فى كتابه لأنه يبدأ من الثقافة ليصل إلى النص والمفروض العكس، أن تبدأ من النص لتصل إلى الثقافة لأنك تبحث عن النسق الثقافى للنص ودائما ما أعتمد مقولة “قراءة ثقافية”، وليس “نقدا ثقافيا” لأن النقد سيقتضى إصدار حكم، وحكمك على النص هو حكم على الثقافة كلها، إنما القراءة توضيح دون حكم، فكان كتاب السرد النسوى بالدرجة الأولى ردا على من اتهم الثقافة العربية بأنها ثقافة ذكورية.

 

الأمر الثانى أن أستخلص من هذا النص الخواص الخاصة بالنص النسوى، وقد فشلت فى ذلك فلم أجد خواصا فارقة لدرجة كاملة، فالخواص الموجودة فى النص النسوى هى الموجودة فى النص الذكورى، لكنها قد تزيد شيئا ما فى النص النسوى اعتماد المخيلة واعتماد الحلم واسترجاع الماضى كل هذا موجود فى النص النسوى والذكورى أيضا لكن أكثر فى النص النسوى.

 

  • ما زلنا فى حضرة علم السرد “أصبحت النصوص نصا واحدا”.. “أحصيت تقنيات هذا العلم وجدتها تصل زهاء السبع والخمسين فإذا طبقتها على النص لم يعد هناك نص” مقولتان نقديتان لك.. ما مآخذك على علم السرد نظريا وتطبيقيا؟

ــ علم السرد أدى بالنقد إلى نوع من الكسل، فتقنيات علم السرد وصلت بالنقاد بأن أصبحوا كسالى، فالناقد يختزل فى ذاكرته هذه التقنيات ويقرأ النص ليستخلصها، وفى رأيى، أنك لو نجحت فى استنباط السبع والخمسين تقنية. فأين النص إذن؟!.. قرأت دراسات لبعض تقنيات علم السرد، ولم أدر لماذا يفعلون هذا مع النص؟.. وهذا ما يفعله النقاد الجدد لأنهم يعتبرون ذلك سهلا حيث يطبقون آلية واحدة على كل النصوص وبذلك أصبحت النصوص كلها نصا واحدا، فما أسهل أن تأتى برواية وتطبق عليها تلك الآليات وبهذا أنت لم تقدم خصائص للنص، بل ترصد أشياء متكررة فى النصوص كلها وهذا شىء لا يمثل قيمة نقدية حقيقية.

 

وفى رأيى أن قراءة السرد لا بد أن أبحث فيها عن الشخوص التى تتعدد داخل النص والراوى فى النص والمؤلف وأكتفى بهذا بعيدا عن كل هذه الظواهر والتى تراجع عنها بارت فى أواخر أيامه أيضا وهو من احتضن علم السرد، وللأسف هناك مقولة أخذناها بلا تبصر وهى “موت المؤلف” ولم ندرك أن تلك المقولة لا تصلح مع الثقافة العربية لأننا نمتلك نصا لا يموت مؤلفه “القرآن”، فأن أستحضر مقولة لا تصلح للثقافة العربية فهذا أمر خطير ثم إذا قلت “موت المؤلف” فمعنى ذلك أننى أضع النص فى فراغ، فالحقيقة أنا غير مقتنع تماما بما جاء به علم السرد من تقنيات وأنا أكتفى من هذه التقنيات بأدوات محددة وهى الراوى والمؤلف والشخوص الموجودة بالنص فهم يقولون استرجاع.. استرجاع ماذا؟!.. الماضى.. هل الماضى يرجع فحتى المصطلح نفسه غير صحيح فأنا أتذكر الماضى ولكن لا أسترجعه وهذا كله لا يقدم جماليات إطلاقا للنص إنما يقدم نصا آلة أو جسدا نصيا ساكنا لا حيوية فيه على الإطلاق.

 

  • وهل العيب من وجهة نظرك فى استراتيجيات السرد نفسه أم فى آلية تطبيق النقاد العرب لها؟

ــ أرى العيوب تكمن فى التقنيات نفسها لأنها بهذا الكم لا تصلح للتعامل مع النص،كما أن هناك عيبا فى نقادنا إذ يتلقفون كل ما هو جديد من دون غربلة نقدية، مغفلين خصوصية نصوص وثقافة لغة عن أخرى، فما يصلح للغة لا يصلح لأخرى، لذلك قلت إن الصالح فى هذا الزخم التأسيسى ثلاث، وهى ما أستعين بها لقراءة النص.

المشهد الثقافى الآنى

  • من القديم إلى الآنى نتحدث.. سجلت ملاحظاتك عبر رئاستك لتحرير “أصوات أدبية” على شباب المبدعين بأن ركائزهم الروائية تدور فى فلك “فساد السلطة/ السقوط الأخلاقى/ الفتنة الطائفية/ أولاد الشوارع” ما وجه اعتراضك على هذه الركائز؟

ـــ اعتراضى على نقاط أنها أصبحت ركائز محفوظة ليست ممثلة لطاقة إبداعية، فرواية يعقوبيان، مثلا، كثير من المبدعين ركزوا على الركائز الموجودة بها وحاولوا تطبيقها فى نصوصهم، وكذلك “تغريدة البجعة” لمكاوى سعيد، بدأ بعض المبدعين يستخلصون منها تلك الركائز  والهدف الذى جعل المبدعين يغرقون فى ذلك أنهم يتمنون أن تترجم أعمالهم، والأعمال التى تترجم مع الأسف هى الأعمال التى تخترق السقف الثقافى العربى باستثناء محفوظ، فقد ترجمت أعماله بعد أن عرفه العالم عبر حصوله على نوبل.

 

 وأذكر أننى كنت فى العام الماضى فى باريس بجامعة السوربون وسألت عن بعض الأعمال التى ترجمت من العربية إلى الفرنسية خاصة بعد أن تردد كثيرا على مسامعنا جملة “ترجم إلى الفرنسية” فقالوا لى: إنهم يقومون بترجمة عشر نسخ لطلبة اللغة العربية، كنماذج للدارسين للتعرف على واقع الأدب العربى المعاصر،  وهذه ليست ترجمات عامة، وإنما ترجمات خاصة لأقسام اللغة العربية، والمؤسف أننا نجد من يردد: ترجمت أعمالى إلى لغات عشر، فى حين أنها ترجمات خاصة، كما ذكرت، وما ترجم من ترجمة عامة من نصوص هى التى اخترقت سقف الثقافة العربية، مثل أحلام مستغانمى، وكلها أعمال ترجمتها الجامعة الأمريكية لهذ السبب ليس أكثر، لذا تجد كثيرا من المبدعين يكتبون عن امتهان المرأة العربية ومذلة المواطن المصرى وديكتاتورية الحكم والفساد الاجتماعى والجماعات الدينية.

 

  • ألا يعدون بمنتجهم الروائى هذا شهودا على عصرهم بمنتج فنى؟

ـــ بلا شك، فمن حقهم أن يصوروا المجتمع بسلبياته وايجابياته، ولكن لا يعنى هذا أن  يحصر المبدع ــ إن كان مبدعا حقا ــ  طاقاته الإبداعية فى نطاق ضيق، مما يؤثر بشكل تلقائى على المنتج  الفنى، وهنا يكمن العيب حيث يعتمدون هذه البنى بشكل متكرر يصل لمرحلة الملل، فإذا جعلت هذه الأدوات للرواية دوى، كررها من دون محاولة لتجريب أدوات فنية غيرها تطور من نسيجه الفنى، ومنهم من يصنع ذلك تحت تأثير خدر الترجمة، فهذا الصنف من الروايات يحظى برضا كثير من المترجمين لحسابات أخرى بعيدة عن القيمة الفنية.

 

زيف الشعارات

  • ما تعليق على مصطلحات غزت مشهدنا الثقافى على شاكلة: ( الأكثر مبيعا/ تصنيع الكاتب)؟

ــ الأكثر مبيعا: مقولة مُزيِّفة ومُزيَّفة (بكسر الياء وفتحها مع التشديد)، وأنا عندما قرأت إحدى الروايات التى حازت على جدل واسع وحصدت جائزة عربية كبرى، وكنت من أوائل قرائها، وجدت موجودا عليها: “الطبعة الثامنة” وحين ناقشت الأمر مع مسئولى نشرها قالوا لى: يا دكتور.. هذا للدعاية والتسويق، تلك واحدة. وأحيانا يلجأ الناشرون إلى حيلة أخرى حيث يطبعون 100 نسخة من الكتاب، وتنفد المائة نسخة ما بين الهدايا والمجاملات وما يحصل عليه المؤلف، ويعدونها طبعة نفدت، وهكذا دواليك.. وهذه حيل يلجأ إليها الناشرون لكى يقبل القراء على العمل ليس أكثر، ودور النشر هى المسئولة عن ذلك، وبكل أسف أحيانا يكون لبعض دور النشر اليد الطولى فى حسم أمر بعض الجوائز لصالح مبدع أو كاتب بعينه، لأنها تحتكر كتاباته.

أما عن “تصنيع الكاتب” فهذا أيضا من التلاعب وتزييف الحقائق من دور النشر، إذ ترتبط من ناحية بخرق السقف الثقافى، وعلى شاكلتها “حفلات التوقيع” التى تقوم بها دور النشر وهذه من البدع الثقافية، فلم نقرأ أن طه حسين أو العقاد أو محفوظ أقام أحدهم حفل توقيع، ولكن ما يحدث ما هو إلا للترويج فقط، فدور النشر أصبحت هى المتحكم فى الإبداع والنشر والحركة الأدبية كلها، وعليه تزيف كثيرا من الحقائق لخدمة مصالحها، وأعجبنى ما دونه الشاعر أحمد سويلم فى مقال له بجريدة الأهرام إذ ذكر أن غالبية دور النشر تعيش على المعونة الأمريكية، ولا تكون هذه المعونة آلافا مؤلفة، بل  ملايين من الدولارات، شريطة تنفيذ إستراتيجية معينة منها: أن يحارب منتجهم الجماعات الإسلامية، أو يجرِّح الواقع العربى الحاضر، أو يمجد الثقافة الغربية، فدور النشر مسئولة عن كثير من النصوص التى تروج رواجا شديدا وهى فى جوهرها بها نظر للنشر، فبعد أن كانت دور النشر هى التى تقدم الإنتاج الجيد، أصبحت تقدم الإنتاج الأكثر مبيعا لا الأكثر جودة.

 

للجائزة معاييــر أخرى

  • “هل يؤخذ فى اعتبار لجان تحكيم الجوائز الأدبية  القيمة الفنية كأحد معايير منحها لهذا وحجبها عن ذاك أم للجوائز معايير أخرى؟ وهل تعد الجوائز برهانا على الموهبة؟

ــ جوائز الدولة نوعان التشجيعية وهذه جائزة محترمة، تخضع لتحكيم جيد، ولا يفوز بها إلا من يجمع النقاد على صلاحيته بالفوز.. أما التفوق والتقديرية ومبارك فهذه مشبوهة، رغم أن من حصلوا عليها يستحقونها، لكن تدخل فيها محسوبيات كثيرة، وأحيانا أعرف الفائز قبل التحكيم بيوم أو اثنين بمجرد إعلان أعضاء هيئة التحكيم.. أما الجوائز الأخرى التى على شاكلة جوائز الجامعة الأمريكية فأنا لا أحترمها لأنها تمنح لمن يخترق السقف الثقافى والدينى، وفى محاولة منهم لإضفاء شرعية نقدية للعمل وخلق، بل استقطاع، مساحة له ولو وهمية فى الواقع الثقافى يستندون إلى بعض النقاد الذين يمنحونها صكا نقديا من دون وجه حق، وقد شاركت فى تحكيم بعض الجوائز العربية وأشهد أن الأسس التى تعتمدها يحترمها كل إنسان ومن يفز بها يكونمستحقا، فيكفى أن تتأمل لجنة التحكيم فناقد سورى وآخر مصرى وثالث جزائرى مما ينفى عنها الترتيب المسبق للفائز، ومن يفز بها يكون أهلا لها، ويكون موهوبا ودارسا وعلى مستوى ثقافى رفيع، وما يقدمه يستحق الجائزة فعلا، ومع الأسف الجوائز العربية جوائز محترمة إذ ما قورنت بآليات اعتماد الجوائز فى مصر، ولا يعنى هذا أننى أشكك فيمن يحصدها، لكن آلية حصدها ليس دقيقا، فمثلا لا أعرف كيف لشاعر بثقل إبراهيم أبوسنة لم يفز بالتقديرية حتى الآن، هذه كارثة، وآخر مثل حجازى لم ينل جائزة مبارك مثلا، وثالث مثل أحمد الشيخ على التفوق، وعن تجربتى الشخصية أقول: شاركت مرة فى جائزة التفوق، وكنا 18 ناقدا ورشحنا ثلاثة أشخاص للجائزة، فإذ من يفز بها مبدع غير من أجمعنا عليه، وفى أخرى حصلت إحدى المبدعات على نسبة 9% من اعتماد النقاد، وحصل آخرون على 99%، فإذا بنا نفاجأ بأن صاحبة الـ9% هى من تحصد الجائزة!.

 

خديعة الترجمة.. ووهم العالمية

  • من الجائزة للترجمة.. هل تخضع عمليات الترجمة لمقاييس بعينها، وهل تعنى قيمة المبدع حقا.. أم لها مآرب أخرى ؟

 

ــ الترجمة غواية عند بعض المبدعين وكلهم يعيشون على أملها، ودعنى أوضح أننى لست خبيرا بالترجمة، ولم أشارك فى ترجمة ما، وما أعنيه هو ترجمة النص، وآلية اعتماده وإقراره لترجمته، خاصة الأسس التى تعتمدها بعض المؤسسات (الجامعة الأمريكية مثلا)، إذ تكون هناك أسس ضمنية من بينها خرق السقف الثقافى العربى والإسلامى، دراسة كانت أم إبداعا، ولا يعد الاحتكاك المعرفى أساسا أو معيارا وما قلته هى شروط يؤيدها الواقع، وما أحترمه من الترجمات تلك الترجمات المعتمدة من شيوخ المترجمين سواء من العربية إلى الإنجليزية أو العكس أذكر فى مقدمتهم الدكتور محمد عنانى، فهو يترجم ما يقتنع به على المستوى الفنى، وأثق فيه وفيما يقدمه.

 

     

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صلاح فضل: نفتقد آليات المنهج العلمي

صلاح فضل: أدين الرافضين لمشروعية القصيدة النثرية فموقفه غير نقدى وغير تاريخى

  • “قصيدة النثر” مثل مواجهة لحظة القدر فإما أن تكون شاعرًا عظيمًا أو يزدريك قارئك
  • العلم لا جنسية له.. ولا يوجد نقد عربى وآخر غربى
  • الجيل الحالى من النقاد يختلف عن سالفيه.. وهذه ملاحظاتى عليه
  • إتقان إحدى اللغات الأجنبية.. مطالعة مصادر الفكر النقدى العالمى.. الإلمام بمستحدثات الإبداع العربى.. تلك توصياتى لشباب النقاد
  • العمل النقدى شأنه شأن العمل القضائى إذا فقد نزاهته لحظة فقد مصداقيته بقية العمر
  • أقول للمبدعين: اصنع جمهورك أولا وسيبحث النقاد عنك
  • أزمة الثقافة فى بلادنا تحكمها قبضة الهوس الدينى والكروى والجنسى
  • نفتقر إلى المنهج العلمى.. وغابت عنا أبجديات الحرية والممارسات الديمقراطية
  • قيمة المثقف مرهونة بإسهامه فى ترقية مجتمعه
  • نشأت نشأة أزهرية وأدرت دفتى لشواطئ العلمانية بمفهومها الصحيح

 

مقدمة

شيخ من شيوخ النقاد، منظر فكرى من طراز فريد، ابن بار للأصالة العربية؛ إذ حظى بنصيب وافر من ميراث حرفها العربى، مجهر منهجى تسربت من خلاله جواهر وأسرار الفكر النقدى العالمى، تفوق فى أن يقف فى منطقة وسطى بين الأصالة تارة والتنوير تارة أخرى، ليبقى همزة وصل بين ثقافات متنوعة، قضى ما يقرب من الأربعين خريفا بدأب وإخلاص بين البحث والتأليف والتحليل لتكون حصيلة إنتاجه ما يربو على الخمسة والثلاثين مصنفا، تنوعت ثمارها بين مناهج النقد الحديثة، ليرسى دعائم فكره عبر مبادئها وأصولها بين أمواج فى تلك الثورة المنهجية الموارة، بين النظرية حينا والتطبيق حينا آخر، وإن حاز التنظير على شطر غير قليل من حياته على نحو ما أخبرنا.

 

“الثقافة الجديدة” التقته للعكوف على رأى مثقف متأمل ذى بوصلة صائبة فى ثقافة بلادنا ، ليدلى لنا بوجهات نظر مغايرة لناقد من طراز فريد، إذ يكشف عورات الثقافة المصرية ويشخص “داءها ودواءها”، ويغوص بعمقه المهنى المتأنى فى قصيدة النثر وإشكالاتها، ويقف على حافة النهر النقدى ليبين عن بعض المغالطات التى جرت فى مجراه مصوبا إياها، ويبسط إزاءنا خارطة النقد المعاصرة ليوضح معالم أجيالها ومواقعهم، كما يكشف عن تحولاته الفكرية من نشأة أزهرية إلى شواطئ العلمانية بمفهومها الصحيح بحسب تعبيره، وشئون أخرى ذاث ثقل حياتى نطالع آراءه فيها فى ثنايا هذا الحوار.    

أجرى الحوار: مصطفى سليم ــ أحمد الدعدر   

 

مشروعية  قصيدة النثر

  • السؤال الشائك دائما، الملغم أبدا: “قصيدة النثر”، وما يكتنفها من “غموض لغتها” و”غياب قوانينها” وطبيعتها غير المحددة، والشروط التى وضعتها سوزان برنار لتحقيق نضوج هذه القصيدة.. وحركة الجدل الموارة حول مشروعية قصيدة النثر فى المشهد الشعرى العربى.. كيف ترى هذا الخلاف؟ وما موقفك من قصيدة النثر؟

ـــ فى البدء أود أن أوضح نقطة ذات أهمية فى حديثنا هذا، وهى أننى أحترم إلى أقصى حد إرادة المبدعين ورؤيتهم وحقهم فى تجريب ومشروعية ما يبدعونه شعرا كان أم نثرا .

أما عن مشروعية قصيدة النثر، فالمبدعون الشباب لهم خياراتهم، وليس بوسع أحد أن يطعن فى مشروعية هذه الخيارات، هذا من ناحية المبدأ. فالشعر نشاط لغوى وإبداعى وجمالى متوهج تتجلى فيه روح المبدع ومن حقه أن يمتلك كل الحرية فى أن ينتجه بالشكل الذى يحقق لذته الشعرية سواء كان ذلك فى أى لغة فضلا عن أن يكون فى أى شكل أو إطار داخل اللغة ذاتها، هذه واحدة.

الأمر الثانى: أن الشعر ليس موهبة منقطعة الصلة بما يغذيها من ثقافة ذاكرة ووعى الشاعر، فثقافة وذاكرة ووعى الشاعر هى التى تغذى موهبته، وكلما اتسع إطارها ليشمل شعريات اللغات التى يعرفها وتراث الثقافات التى يمكن التواصل معها، كلما كان أفقه أوسع وكفاءته أعلى وأدواته أقوى.

 أخص بالذكر من هذه الذاكرة المخزون العربى فى الشعرية لأننى أعتقد أن الشاعر الذى يتوهم أنه يبدأ من الصفر وأنه يبتكر شعرا لا أب له ولا أم فى لغة معينة ويفرغ ذاكرته تماما ويتخذ مثل هذا الموقف من الموروث الممتد عبر أجيال عديدة للشعرية التى ينتمى إليها فهو شاعر واهم، فمن شروط إنضاح الكفاءة الشعرية التمكن من التراث العالمى الشعرى ومن التراث القومى الشعرى، يترتب على ذلك أن من تعمق صلته الحقيقية بتراثه الشعرى العربى لا يستطيع أن يتجاهل الدائرة العظمى الواسعة للأشكال والأنماط الشعرية المختلفة فى العصور المتعددة بكل تجلياتها فى اللغات الفصحى واللهجات العامية ابتداء من الجاهلى إلى جميع الشعريات حتى اللحظة الحاضرة ــ لو اقتصرنا على النطاق العربى ــ إلى التجليات الأندلسية إلى كل العبقريات الشعرية التى صنعت فى النهاية رؤية الإنسان العربى المعاصر للشعر.

ومن حق الشاعر الشاب أن ينطلق فى الاتجاه الذى يحقق فيه ذاته ويجد فيه كفاءته لكن إذا كان مبتوت الصلة بهذا التراث الذى أشير إليه، لم تتغذ خلاياه به، ولم تتشبع روحه بحلاوته، أشك كثيرا فى أنه سوف يمضى بعيدا فى تجربته.

إذن: أدين كل من يرفض مشروعية قصيدة النثر وأعتقد أن موقفه غير نقدى وغير تاريخى وغير صحيح، وأدين بالقوة والصرامة والحسم نفسه الشباب الذى يتصور أنه بالاستغناء عن كل الجذور الشعرية الممتدة بالشعر العربى والثقافات العالمية الأخرى يريد أن يبتكر شعرا لا سابقة له ولا ذاكرة له ويجرد نفسه من التواصل العميق الخلاق مع الشعريات الإنسانية التى يرثها الإنسان خاصة مع شعريته العربية الذى يقطع صلته بها ولا يتمرغ فى ترابها ولا يتذوق حلاوتها فهو محروم من الغذاء الشعرى وسيموت بالأنيميا الشعرية.

  • يأخذ المعارضون لمشروعية قصيدة النثر على شعرائها أنهم لجأوا إليها هروبا من الوزن الموسيقى مستندين فى ذلك إلى الإشكاليات السالفة، وكثير من العبث الشعرى الذى يكتب وينشر بغزارة تحت تصنيف “قصيدة النثر”.. ما تعليقكم؟

ــ الشاعر فى تقديرى النقدى الواعى الذى يحقق إبداعا حقيقيا فى قصيدة النثر هو الشاعر القادر والمتمكن على كتابة قصيدة التفعيلة، والذى لا ينقصه الحس الموسيقى، معنى ذلك أننى أنظر إلى تجربة الشاعر وأتلقاها ببراءة، أفترض أن لديه كفاءة استخدام الأوزان الموسيقية لكنه يرى أنها لا تحقق إمكاناته الإبداعية فيتجاوزها بحثا عن إيقاعات جديدة. إذا اقتنعت لدى قراءة النص بأن هذه الكفاءة الإيقاعية متوافرة لديه سوف يشبعنى هذا النص، وسبق لى فى كتاب “أساليب الشعرية المعاصرة” أن أفردت فصلا خاصا فى قضية النثر وحللت قصائد “محمد الماغوط” لأننى كما قلت وقتها شعرت بأن هذه القصائد مكتملة شعريا لا ينقصها شىء، هذه النماذج لسوء الحظ ليست كثيرة، كما أن النماذج المتحققة شعريا من قصيدة التفعيلة أيضا ليست كثيرة، لكن الوزن غطاء يستر هشاشة عظام الشاعر، فمن يقرر أن يستغنى عن هذا الغطاء لابد أن يكون ممتلئا بالحياة حتى يعوض هذا الغطاء أقصد “الحياة الشعرية” والمشروع الشعرى والكفاءة الشعرية حتى يعوض نقص الوزن،فالموسيقى هى العجينة التى تذوب فى اللغة فتصنع شعرية.

هناك نظم كثير ليس فيه شىء من الشعر، ثلاثة أرباع الشعر العمودى لا شعرية فيه، لأنه يتكئ على الموسيقى فقط ولا يحقق القيم الجمالية والشعرية الأخرى، أما قصيدة التفعيلة فى رأيى فهى تمسك بالعصا من الوسط: تستبقى من الموسيقى على العنصر الجوهرى المكرر الخاص بالتفعيلة، وتتحرر منه وتلغى القوافى، ولا أعرف لماذا لا يكتفى الشعراء بهذا القدر من الحرية وصمموا أن يخرجوا إلى شارع الإبداع عرايا كما ولدتهم أمهاتهم دون أن يسترهم أى رداء أو أى عباءة موسيقية؟.

والتجربة العملية أثبتت أنه سهل جدا على الشعراء الشباب أن يكتبوا التفعيلة لأن القدر الأدنى من الوزن سيستر ضعفهم وهشاشتهم، ويقنع القارئ العادى بأن ما يقرأه شعرا، بينما قصيدة النثر مثل مواجهة القدر لحظة المصير إما أن تكون شاعرا عظيما فتكتب قصيدة تستطيع أن تقنع أعداءك وليس أصدقاءك بأن هذا شعر حقيقى، وإما أن تكون شاعرا ضعيفا فيزدريك قارئك.

وللأسف، القدر الأعظم من إنتاج قصيدة النثر أدى إلى أن يزدرى القراء الشعر بدلا من أن يعشقوه ويترنموا ويعجبوا به، وأدرك أن هناك جيلا فيه موهوبون حقيقيون ممن يكتبون قصيدة النثر يغيظوننى أحيانا ويمتعوننى أحيانا أخرى أذكر منهم على وجه التحديد “عبدالمنعم رمضان” فهو يصيبنى أحيانا بتوتر لا حد له لأننى أدرك أنه يمتلك طاقة شعرية عظيمة فهو موهوب فعلا لكنه يكتب أشياء بعضها مستفز لأقصى درجة وبعضها ممتع أيضا لأقصى درجة.

 

  • مغالطات نقدية
  • “هناك افتراضية نقدية دائما ما تتساءل عن أثر مناهج النقد الحديثة بالنص العربى خاصة بعد ظهور بعض المعالجات النقدية الحديثة عن نصوص قديمة، زادتها غموضا أكثر منها إبانة، على النقيض تماما مما تبغيه المعالجات النقدية عموما، ما أثار استياء كثير من النقاد وجعلهم يصوبون سهامهم على هذه المناهج” .. ما تعليقكم؟

 

ــ بحدة واستهجان بادرنا: هذه مغالطة فادحة، فلا يوجد نقد غربى وآخر عربى توجد حركة تطور إنسانى علمى، المنهج عبارة عن طرائق علمية، والعلم لا جنسية له، ليس هناك علم مصرى وآخر عراقى وثالث كورى ورابع يابانى، المناهج هى طرائق علمية لدراسة الظواهر الطبيعية والإنسانية، والنقد العربى فى عصوره القديمة لم يحقق شيئا إلا بتواصله مع التفكير الإغريقى اليونانى قديما، ومع التراث الحضارى  و”المنجز الثقافى الإنسانى” حديثا، وبذلك أصبحت له بعض المنجزات الحقيقية بدءا من إرهاصات العصر الحديث، والذين اقتصر عملهم على أن يكونوا بغبغاوات يكررون المحفوظ فى كتب القدماء من النقاد والبلاغيين لن يتقدموا خطوة فى الفكر الأدبى ولا النقدى، ولن يحققوا أى منجز ابتداء من التواصل مع التراث الإنسانى والعالمى ومع مناهج النقد الحديثة.

 فمنذ بداية القرن التاسع عشر بدأ يتشكل لدينا وعى نقدى فى الأجناس الأدبية من ناحية، وفى الفكر النقدى من ناحية أخرى، وبالتالى مخطئ من يقيم حدا فاصلا بين ما هو عربى فى المناهج وما هو غربى هذا يدل على عدم الوعى بالظواهر وطبيعتها.

 وإذا نحينا النقد جانبا وتحدثنا عن الأجناس الإبداعية سواء كان ذلك فى الشعر أو المسرح أو القصة أو الرواية أو فى غير ذلك، سنجد أن انفتاح الآفاق على المفاهيم والأطر النظرية وعلى التجارب الإبداعية هو الذى أتاح لنا أن يكون لنا أدب حديث وبالتالى لا يمكن أن يكون لنا نقد حديث منذ طه حسين حتى اليوم إلا إذا كانت التيارات موصولة بالمنجزات العالمية فى الفكر الأدبى.

أخلص من هذا إلى أن الذين يتوهمون أن النقد ممالك مغلقة على ذاتها، ومجالات أرض مسورة بالأسوار الوطنية والقومية بلغاتها، وأنها تصبح أقوى وأشد كلما عزلت عن إطارها الثقافى والإنسانى، وخلعت من جذورها المعرفية، هم واهمون تماما لأنهم ليس أمامهم إلا أن يلوكوا المقولات النقدية القديمة التى لم تعد تصلح لقراءة حتى الشعر العربى القديم نفسه الذى نتج فى عصرها فضلا عن الأجناس الجديدة كالشعر المسرحى والشعر الجديد والقصة والرواية وغير ذلك اللهم إلا إذا وسعنا دائرة ما ورثنا من نقد قديم ولكى نستوعب الإنجازات النقدية المعاصرة.

 وهذا الموقف هو موقف افتراضى مضحك وغير واقعى وأشد الناس دعوة للاقتصار على المنجز الوطنى والقومى لا يستطيع أن يمنع عقله وأن يدخل ذهنه داخل سجن قديم لأنه يقرأ صحفا ويرى تلفازا ويتفاعل مع الحياة من حوله، والحياة من حوله هى هذه التيارات، وما بها من تحولات، فمن يريد أن يقلد القدماء ويحتذى حذوهم لا يستطيع أن يغفل ذلك لأنه يطلب المستحيل، يطلب الانخلاع من ثقافة ومنطق عصره.

 

  • وماذا عن تجربة د.عبدالعزيز حمودة ــ رحمه الله ــ وهو ربيب الفكر الغربى، فى ثلاثيته النقدية ومآخذه على المناهج الغربية، وتبنيه مشروعا شعاره: “نحو نظرية نقدية عربية” ما تعقيبكم على هذه التجربة، وأنتم من عشاق ” التجارب النقدية” على نحو ما شدوتم فى مجلة فصول ردحا من الزمن؟

ـــ عبدالعزيز حمودة حالة خاصة، رحمه الله، وبما أنه قد مات ولم أشتبك معه فى معركة خلال حياته، لأننى لست مولعا بالمعارك فلم أنتهز موته لكى أتصارع معه، هذا غير نبيل؛ ولذلك لن أعلق، لكن يشهد الله بأننى فى حواراتى معه، وكان صديقى، شرحت له كيف أنه كان مخطئا وكيف أنه لم يقرأ ولم يستوعب الفكر النقدى العربى الحديث فى أصوله التى فتحت هذه التيارات  على وجه التحديد.

فمثلا عبدالعزيز حمودة لم يتعرض فى كل كتاباته لسطر واحد مما كتبت، وأنا أزعم أننى من أدخل البنيوية إلى الثقافة النقدية العربية، ومن أدخل تيار الأسلوبية، وتيارات السيمائية والسيولوجيا، وكل تيارات النقد الحديث وكتبى فى الجامعات العربية هى المصادر الأم لهذه التيارات، فإذا كان عبدالعزيز حمودة على قدر من الوعى والكفاءة والقدرة على أن يعارض هذه التيارات لماذا لم ينتقد كتاباتى وهو من اختار بعض الأعمال البسيطة مقال هنا ودراسة بسيطة هناك لأصدقاء أعزاء، لا أقلل من قيمتهم مثل كما أبوديب، وجابر عصفور لكى يشعل معركة دون أن يتعرض للكتب الأمهات التى أدخلت هذا الفكر النقدى للثقافة العربية؟..  ولا أعلق أكثر من ذلك لأننى أحترم ذكراه.

 

  • خريطة النقاد
  • وصَّف د.صلاح فضل الحركة النقدية فى العقد الثالث من القرن العشرين بالجيل الذهبى للنقد.. كيف يرى وهو الخبير بمجريات الأمور النقدية الأجيال التى تلاحقت على هذا الجيل خاصة جيله ونظرائه من النقاد؟

ــ المتأمل فهرس النقاد العرب والبيئة المصرية خاصة يجد أن  لدينا ثلاثة أجيال من النقاد موزعين على القرن العشرين:

الجيل الأول: جيل الثلث الأول من القرن مدرسة الديوان العقاد والمازنى وشكرى وبدايات طه حسين وهذا هو الجيل الذهبى كما سبق أن قلت.

الجيل الثانى: جيل منتصف القرن مندور ولويس عوض وعلى الراعى وكل هذه الكوكبة من كبار نقاد منتصف القرن العشرين.

والجيل الثالث: جيل الثلث الأخير من القرن العشرين الذى أنتمى وأساتذتى إليه، وهذا الجيل يمكن أن ألاحظ  عليه الظواهر الثلاث الآتية:

الظاهرة الأولى: أنه أصبح يعترف بمصادره الغربية بعد أن كان الجيلان السابقان عليه يضمران هذه المصادر ولا يبوحان بها كثيرا وهذا هو الفرق بينى وبين طه حسين، طه حسين لم يكن ليقف ليقول أنا متاثر بلانسون أو غيره، فلم تكن المرحلة التاريخية تقتضى ذلك، أما اليوم فلا نجد  ناقدا ينكر مصاده فلابد أن يبوح بها لكى يستفيد منها الشباب ويكون أكاديميا بحق هذا هو الفارق الأول.

 

الظاهرة الثانية: أنه بينما كانت مراكز الفكر الأدبى والنقدى فى النصف الأول من القرن العشرين محصورة فى مصر والشام والعراق تقريبا امتدت هذه المراكز لتشمل كل أنحاء الوطن العربى الآن، فيصبح للمجموعة المغاربية مراكز نقدية بالغة القوة والثراء والحيوية والنضج والتواصل مع التيارات العالمية، وتصبح للمجموعة المصرية والشامية أيضا مراكزها، وتصبح حتى للمجموعة التى انضمت مؤخرا فى الخليج العربى أيضا أعلامها من النقاد المعاصرين. لابد من الاعتراف بتعدد المراكز هذه هى النتيجة الثانية التى نختلف فيها عن الأجيال الماضية.

 

الظاهرة الثالثة: أن تجاهل هذا التفاعل الثقافى مع الأطر الإنسانية والعربية يؤدى إلى تدمير الفكر النقدى والإبداعى فلم يعد ذلك ممكنا لأن ما ورثه لنا أصحاب التيارات الانعزالية المنكفئة على نفسها التى تدعو إلى الاقتصار على كل ما هو عربى من القديم أعلنت إفلاسها تماما ولم يعد فيها ما يفيد أبناء الجيل الحالى وبالتالى من الحماقة أن يتبرع أحد لإعادة تكرار هذه التجربة أقصد تجربة الاستغناء عن الثقافة الإنسانية فى الفكر النقدى.   

  • توصيات نقدية
  • بعد ما يقرب من أربعين خريفا من الدأب والإخلاص فى معايشة النص العربى، أسفرت عن توصيفكم فى طليعة النقاد العرب، ما توصياتكم لشباب  النقاد ؟

 

ـــ  بداية  لا يستطيع أى شاب أن يزعم لنفسه أنه يريد أن يتكون تكوينا نقديا منهجيا من دون أن يتقن إحدى اللغات الأجنبية الكبرى؛ لأن هذه اللغات الأجنبية الكبرى مثل الأنابيب المستطرقة: ما ينشر فى لغة ينشر بالتزامن فى الوقت نفسه فى معظم هذه اللغات الأخرى، ومن دون أن يمتلك الشباب أداة تواصل مع الفكر العالمى سيظل رهين محابس الترجمات، والترجمات التى لا تجدى من النقد شيئا، وهذا هو الشرط الذى أفتقده فى كثير من الشباب إذ يريدون أن يكونوا أساتذة للنقد الأدبى مكتفين بما تنامى إليهم من ترجمات مجتزئة وأحاديث مبتسرة، وأخبار مقتطعة من سياقاتها دون أن يقرأوا المصادر التى يتوالى نشرها فى اللغات الكبرى لأعمال أمهات مؤسسة للمعرفة النقدية، أقصد المجلدات التى تتضمن أصول النظريات المعرفية النقدية.

 وبالتالى هذا الشرطان ــ امتلاك اللغة وامتلاك حسن الدأب بإنفاق آلاف الساعات فى قراءة المصادر الأساسية والتمكن منها معرفيا قبل التصدى لأن يعتبر نفسه ناقدا ــ لا أحسب أنهما يتوافران كثيرا، لكن لا يمكن لناقد حقيقى يعتد به أن ينشأ من دونهما، أن يتشكل علميا من دون هذين الشرطين شرط الأداة وشرط الكفاءة والنضال والجهد.. آلاف الأيام والساعات التى يقرأ بها.

 والأمر الثالث: وهو بديهى أن يكون على علم بكل مستحدثات الإبداع العربى، ومستحدثات الفكر النقدى العالمى ما وسعه إلى ذلك سبيلا.

 

  • بين الناقد والمبدع
  • العلاقة بين الناقد والمبدع غالبا ما تتسم بالتوتر منذ قدم مسيرة النقد الأدبى.. ماذا عن هذه العلاقة بين الدكتور صلاح فضل والمبدعين ؟

ــ علاقتى بالمبدعين تدور فى فلك نصوصهم فحسب، فهناك إنتاج يدفعنى إلى مزيد من القراءة، وإنتاج يستحثنى على الكتابة، وإنتاج ثالث لا يدفعنى إلى مزيد من القراءة ولا يحرضنى على الكتابة، ولا أملك مخططا مسبقا ولا نوايا مفترضة أن أقرأ ذا  لأكتب عنه، أو أقرا ذاك  كى أتجاهله، وأعتقد أنه لسوء حظى لا أملك الوقت، ولا العمر الكافى لكى أقرأ كل ما ورد، وما أقرأه لا يمثل واحدا بالمائة مما أشتهى أن أقرأه.. فالمبدعون أهيم فى عوالمهم شعراء كانوا أم كتابا أم روائيين، وأتلقى  بقدر ما أستطيع من الموضوعية والاعتدال إنتاجهم وإذا قدر لى أن أشهد لهم أو عليهم فدائما ألتزم بأكبر قدر من الحياد وأتفادى الكتابة عن أصدقائى حتى لا أقع فى المجاملة النقدية وأعتبر أن العمل النقدى مثل العمل القضائى إذا فقد نزاهته لحظة فقد مصداقيته بقية العمر ربما كانت هذه الصرامة الشديدة تكلفنى الكثير من المشقة والجهد، لا أكتب إلا بعد قراءات طويلة فإذا كتبت عن عمل أكون قد قرأت عشرة أعمال أخرى لم تحفزنى على الكتابة .

وأحسب أننى لم أخطئ عندما تخيلت أنى مررت بفترة من عمرى أعانى فيها من الممارسة فى التكوين النظرى ثم بعد أن توهمت أنه اكتملت أدواتى أصرف جل وقتى للنقد التطبيقى لأننى بذلك أسد فراغا أراه فى الساحة العربية كلها وكثير من المبدعين العرب يحسدون المبدعين المصريين لأنهم يجدون نقادا يتحدثون عن أعمالهم ويكتبون عنهم بينما فى كثير من البيئات العربية المبدعون أيتام لا يجدون من يقول لهم شيئا عما أنجزوه.

 

  • إذا كان الأمر على ما تصفون.. فما تفسيركم لشكوى المبدعين الدائبة والدائمة عن غياب النقد الأدبى لمشروعاتهم الإبداعية؟

                    

ــ هذه المقولة أزلية ويرجع سببها إلى أن المبدعين يتعجلون دائما إصدار تلقى الأحكام النقدية، يتصور أى كاتب شاب أنه لابد أن يوزع على كل كاتب مبتدئ ناقد حتى إذا كتب أى شىء ليلا كانت مهمة الناقد أن يعلق عليه صباحا، وهذه سذاجة لا حد لها والوضع الطبيعى أن الكاتب يكتب مرة واثنتين وثلاثا وعشرا ويسعى لكى يتعرف على رأى من يحيطون به من أساتذة أو زملاء أو بعض النقاد الذى يجد وسيلة للاتصال بهم. فالكاتب الذى يجتاز دائرة القراء، ويحقق درجة عالية من المقروئية يفرض نفسه على الناقد، يجد الناقد نفسه مقصرا إذا لم يقرأه، عندما أسمع مثلا عن عمل اهتم به القراء يجب أن أتعرض له بالنقد، فالقراء هم المصفاة الأولى التى ترشح لى الأعمال لكن عملا صدر ولم يحظ باهتمام من القراء فلماذا أضيع جهدى فيه؟!.

فعلى المبدع أن يكتسب جمهورا من القراء قبل أن يطمح إلى أن يصل إنتاجه إلى النقاد فإذا اكتسب جمهورا من القراء سيجد النقاد أنفسهم مضطرين للاهتمام بمشروعه كى لا يتهموا بأنهم مهمشون وغائبون عن الوعى لا يدركون ما يحرك الناس، وعندئذ إذا كان يستحق الكتابة سوف يكتب عنه وإذا كان يستحق النقد سوف ينقد لكن لابد أن تمر عملية العلاقة بين المبدع والناقد بمدارات متعددة : مدار النشر المتكرر لأعمال متعددة وليس مجرد أول ديوان. ما أقوله للمبدعين :اصنع جمهورك أولا وسيبحث النقاد عنك.

 

  • الثقافة فى بلادنا
  • تمر الثقافة المصرية بجملة من تداعيات الهزال والهشاشة الثقافية.. كيف ترى الواقع الثقافى فى مصر تحت مجهر تشخيصكم للداء الثقافى وماذا عن الدواء الفكرى وهل من بديل؟

 

ــ أرى أن الأزمة الحقيقية لدينا تتمثل فى ثلاث زوايا انحصرت فيها الثقافة المصرية السائدة لدى ملايين الشعب وقد تجسدت فى هوس ثلاثى الأبعاد يسيطر على الجمهور المصرى ويسلبهم أى قدرة على التأمل واتخاذ الموقف النقدى، تمثل إزائى هذا الهوس فى:

 هوس الفهم المتخلف للدين والذى يحصر قضاياه فى أمور شكلية تافهة مثل لبس المرأة ولحية الرجل وغير ذلك هذا الهوس يعتبر هو مكمن الداء فى الوعى الثقافى الهش والضعيف للشعب المصرى اليوم.

 

الهوس الثانى: الهوس الكروى الذى أسفر عن وجهه القبيح ، فلم أكن أتصور أن التعصب لكرة القدم يدفع جموع الشعب المصرى وكأنها قد كفرت بالعروبة وكفرت بالقيم الدينية التى هى مهووسة بها والتى يجمعها بها الإسلام مع الجزائريين وكفرت بثقتها بنفسها وأصبح كل همها أن يصل منتخبها إلى المونديال، أصبح كأن مصير مصر معلق بأحذية أحد عشر لاعبا هذه الصورة أوجعتنى شخصيا وهى مما لها دلالة على أن الثقافة المصرية فى مأزق حقيقى.

 

الهوس الثالث: هو الهوس بتتبع قضايا الجنس وكأنها هى نهاية العالم بمعنى أن شابا يغتصب فتاة فى قرية من القرى النائية فى الصعيد فتقوم فتنة طائفية على ذلك أولا فكرة الاغتصاب ذاتها لماذا تستفز هؤلاء الناس وتجعلهم ينسون إنسانيتهم وينسون آلاف السنين من تعايشهم لكى يذبحوا أنفسهم بهذا العنفوان،الجنس عندنا أصبح قدس الأقداس، قضية جنسية يمكن أن تثير حربا أهلية فى مصر هذه كارثة ثقافية.

 كوارث الهوس هى التى تقلقنى فى مصر، وغياب التفكير العلمى، فلو فكرنا علميا فى قضايا الدين  وقضايا الرياضة والكرة وفكرنا علميا فى قضايا الجنس ومدى فهمنا للظواهر وكيفية تقبلنا لها وتفاعلنا معها لاختلفنا جذريا عن ذلك.. فغيبة التفكير العلمى عن حياتنا وغياب الوعى النقدى وبلاهة الإعلام المقروء والمسموع  أفدح عيب يطعن فى صلب الثقافة العربية كلها والمصرية منها على وجه الخصوص.. هذه هى الأزمة التى أراها وما عدا ذلك ثرثرات صالونات لا قيمة لها. فالمجتمعات الناهضة التى تشارك فى الحركة الحضارية نظيفة تماما من هذه الظواهر ليس فيها تعصب دينى واحتقان كروى مدمر وبالتأكيد الحساسية الجنسية المفرطة الموجودة لدينا.

 

وفى تقديرى أن ثقافتنا أيضا إلى جانب أنها تفتقر للمنهج العلمى تفتقر أيضا للحرية الديمقراطية وافتقاد الديمقراطية فى كل مستوياتها لدينا ابتداء من مستوى الحكم الذى يصر على أن يعاند التوجه الحضارى للديمقراطية ويصر على أن يحبط كل تطلع ديمقراطى لدى الشعب يصر على تحويل الجمهورية إلى ملكية وعلى إبطال كل مسعى سعاه الشعب المصرى خلال القرنين الماضيين لتحقيق قدر من الكرامة والمشاركة السياسية ويصر على حرمان الشباب من المشاركة السياسية وتحريم السياسة فى الجامعة وتحريمها فى المساجد، وكأن السياسة أصبحت هى المخدرات كل هذا كى لا يشارك الشعب ديمقراطيا فى اختيار حاكمه هذا النهج السلطوى المستبد يؤدى إلى نتائج كارثية فى الثقافة المصرية.

وأنا أدرك أن هذه الهموم هى التى تؤرق المثقفين الحقيقيين، وعلاج هذه الأزمة موجود فى الثقافة العربية منذ زمن الإمام العقلانى محمد عبده، بالإضافة إلى أننا يجب أن نلتفت إلى مناهج التعليم، ولابد أن تركز على سيادة التفكير العلمى، هذا هو العلاج البديهى، وتفعيل دور الحريات والديمقراطيات، فعندما تمسك بالكرة الأرضية تجد معظم شوارعها أنارتها كهرباء الديمقراطية، فى حين أننا مصرون على أن نظل فى ظلام العصور الوسطى بالنظم الاستبداية التى تعيش بيننا ونتوهم أنها هى المستقبل.

 

  • المثقفون قناديل الأمة
  • “للأدباء مهام كثيرة على رأسها أن يكونوا مبشرين وطليعيين” وأن يروا الحاضر رؤية تقدمية وأن يستشرفوا المستقبل وينهضوا بأمتهم. كيف ترى مبدعى العصر الراهن وهل أدوا ما عليهم تجاه مجتمعهم؟

 

ــ لا أملك لوم الآخرين، وأحترم المثقفين وأدوارهم، لكن لا أستطيع أن أنصب نفسى قاضيا وحكما على أداء بقية المثقفين، وأعتقد أن ما يحدد قيمة المفكر والمثقف والمبدع هو مدى إسهامه فى ترقية المجتمع وتغذية الوجدان وتحضير البيئة التى يتفاعل معها وإنجازهم لا يبقى سرا ولا يخفى لأنه مطروح أمام كل القراء.

 والناس تعرف من يدعو إلى الحرية، ومن يسعى للعلم، ومن ينشر الجهل والخرافة، ومن يبشر بالتسامح والتعايش، ومن يؤجج نار الفتن، خاصة أن المثقفين لا يتمثل عملهم فى مجرد مواقف يتخذونها دائما، وإنما فى أقوال يكتبونها وذاكرة الثقافة لا تغفل عن هذه الأقوال فتحاسبهم الأجيال القادمة على صواب أو بطلان اتجاهاتهم الخاطئة، أظن كل مثقف لابد أن يملك بوصلة وهى ضميره يسعى عمره لتكوينها، هذه البوصلة هى التى تحدد وجهته وقيمته أيضا.

 

  • بين الفكر والنقد

 

  • تتلمذ د.صلاح فضل على يد قامتين كبيرتين فى الفكر والنقد وهما الدكتوران محمد غنيمى هلال ومحمد مندور.. وذكرت فى حوار سابق أنك أردت الجمع بينهما فى سبيكة واحدة .. فهل نجحت فى أن تجمع بينهما؟

 

ــ حاولت واجتهدت فى ذلك، أما أن أكون قد وفقت، فلا أقدر أن أحكم على ذلك لا بالرضا ولا بالإنكار، لا أملك ذلك، وأتمنى ألا أكون قد أخفقت، ما أملكه هو الأمنية، ولكن هناك بعدا أساسيا فى مندور لم أستطع أن أحققه فقد كان مندور كاتبا سياسيا وصحفيا ماهرا من الدرجة الأولى وظروف عصرى الذى عشت فيه حرمتنى من هذا الدور، وكان مندور عضوا فى الطليعة الوفدية ومبشرا وقائدا جماهيريا..  للأسف لم تسمح المؤسسة العسكرية لأبناء جيلى على الإطلاق أن يمارسوا دورهم السياسى.

  • هل لذلك شاركت فى حزب “الجبهة الديمقراطية”؟

ــ عندما أتيحت الفرصة شاركت بالفعل فى الحزب للأسف ليس بالفاعلية التى شارك بها مندور لأن المناخ مختلف، فالأحزاب مخنوقة، وينطبق عليها قول الشاعر العربى:

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له    إياك إياك أن تبتل بالماء

ومشاركتى فى الحزب كانت فكرية نظرية لأننى لا أزعم أنى أملك طاقة النشاط، ليس بوسعى أن أذهب إلى القرى، أو ألقى محاضرات، أو أتزعم مظاهرات، وشاركت عن قناعة كاملة فى أن مستقبل مصر وغدها ونهضتها كل ذلك مرهون بالديمقراطية، والخطوة الأولى فى تأسيس أى حياة ديمقراطية تكوين أحزاب حقيقية وصطدمت بالواقع عند مشاركتى بالحزب.فالأحزاب تحرم عليها الاجتماعات العامة، أو الاتصال بالمؤسسات الأجنبية، يحرم عليها استقطاب الجماهير، يحرم عليها صناعة زعامات، يحرم عليها إنضاج سياسات، هى تحت السيطرة، شديدة الوطأة، وأى حزب يخرج عن هذه الحدود التى تضمن بقاءه شبحا صوريا لا فاعلية له، تلفق له التهم كما حدث فى الوفد والغد وغيرهما.

 

تحولات وأزمات

  • “المثقف كيان أيديولوجى له أهدافه، له أزماته، له فترات ضياع، وفترات استعادة وعى، وله تحولاته”، هكذا صرح د.فضل.. والتساؤل ماذا عن التحولات الفكرية التى أصابت حياتك؟

ــ  جيلنا تربى على الخوف، حينما تخرجت فى الجامعة وكنت شديد الإيمان بالناصرية ثم سافرت للخارج واكتشفت زيف هذا الإيمان كان كل من يصرح برأيه يلقى به فى السجن أو يذهب وراء الشمس ففرض علينا الصمت لإيثار السلامة وتعللنا بأننا نعمل فى الجامعة والجامعة تقتضى الاستعلاء والترفع عن الحياة العامة، ووليت قبلتى الفكرية وقناعاتى تجاه بوصلة الليبرالية ووجدتها عند مفكرى النهضة المصرية الحديثة، هذه واحدة.

 

نشأت نشأة أزهرية ثم درست القانون دراسة غير مباشرة وسافرت للخارج وأسهم ذلك على استيعابى للإطار الحضارى والفكر الدينى كله وبالتدريج أصبحت أميل إلى المفهوم العلمانى بالمعنى الصحيح والدقيق لكلمة “العلمانية” وأقصد بها فصل الدين عن الدولة وترك الإيمان معتقدات فردية للناس.

 ولا شك أن من بيئة أزهرية لموقف علمانى هو تحول مائة وثمانين درجة. وليس معنى هذا أننى ضد الدين بالعكس فأنا أفهم جذريا أن المكون الأساسى للشخصية المصرية هو الدين لكن الدين بمفهومه الحضارى وليس بمفهومه المتخلف بفهمه الذى بدأه الشيخ محمد عبده وانتهى إليه زكى نجيب محفوظ وليس بفهم الجماعات المتأسلمة التى تتاجر بالسياسة وتتاجر بالدين.

 

  • مستقبل الرئاسة
  • مستقبل الرئاسة فى مصر سؤال يطرح نفسه على النخبة فى الوقت الراهن خاصة أن هناك جعجعة بلا طحين حول هذا المستقبل الغامض.. ماذا عنه فى عيون د.صلاح فضل؟

ـــ لا حل إلا الديمقراطية وذلك عن طريق تعديل الدستور، إباحة تكوين الأحزاب، ترك الشارع المصرى يغلى بالبرامج الانتخابية، وترك الفرصة لانتصار البرنامج الذى يحظى بأغلبية الشعب، حتى ولو كان برنامج الإخوان المسلمين، لكى يكتشف الناس أنهم أخطأوا الاختيار، وأن يظل الجيش رقيبا على عدم الانقلابات الدستورية، وهذا هو ما يحقق نهضة مصر.

 

  • وهل الشعب المصرى بكل سلبيات ثقافته التى تحدثت عنها قادر على تقرير مصيره ؟

ــ  الشعب المصرى قادر وقت الشدائد على تحديد بصلته الصحيحة ومصيره الصائب، ألم يقل حافظ إبراهيم:

أتُـراني وقـد طويت حياتي    في مراس لم أبلغ اليوم رشدي   

ختاما.. “عين النقد” هل يعد مشروعا تجريبيا لصياغة السيرة الذاتية لشيخ من شيوخ النقاد خاصة مع ما يؤرخه من مسيرتكم الحياتية والنقدية؟

ــ مبتسما، ليس بالضبط، إنما محاولة لتذكر بعض مشاهد خجولة من سيرة متواضعة، ليس فيها ما يثير الاهتمام، وكانت الفكرة هى كيف تكوَّن عقلى النقدى، أما فن السيرة الذاتية فأعتقد أنه  لابد أن يكون بها شجاعة وصراحة واعتراف بالنقائص، وبوح بالأسرار أكثر من هذا، وهذا لا أقوى عليه