أرشيف التصنيف: مقالات

عوالم إبراهيم الكونى

يرى إبراهيم الكونى أن منجزه الروائى هو محاولة لـ«قهر الموت».. يستشهد بصنيع داهية كشهرزاد التى برهنت “أن الإنسان يستطيع أن يحقق الخلود لو تحلى بالشجاعة ليروى إلى الأبد.. أولم يكن شعار شهرزاد “القص أو الموت؟”، من هذا المنطلق أعاد الكونى سيرة أساطير الأمازيغ، ليضم إلى حرم الرواية العالمية سيرة روحها العدمية التى لم ير العالم فيها “سوى خيالات عابرة لأمة ابتليت بالضياع”.

العرب أمة سردية

روى لنا كثير من الأساتذة ونحن في قاعات الدرس الجامعية وما قبلها، عددا من المغالطات من بينها أن “الشعر ديوان العرب”، أخبرونا أيضا أن تاريخ الرواية العربية الحديثة بدأ منذ اختط هيكل روايته “زينب”، حسبما أشاعت مجلة البيان في عددها الصادر سبتمبر/ أكتوبر 1913، على حد رصد الناقد العراقي عبد الله إبراهيم، صاحب موسوعة السرد العربي، فى حين أن الحقيقة الموجودة في بطون مصادر تاريخ الأدب العربي القديم تؤكد أن العرب أمة سردية بامتياز، وأنه لم يصلنا من تاريخ السرد القديم سوى عُشر المنثور في مقابل ضياع تسعة أعشاره، وفقا لرواية الفضل الرقاشي، أشهر قصّاص القرن الثاني الهجري، والحقيقة أنها طمست وتم إقصاؤها، وهذه قصة طويلة، ولها سياقات سنقف عندها طويلا، فى الوقت الذى تؤكد المراجع الحديثة أيضا أن تاريخ الرواية يبدأ قبل رواية زينب لمحمد حسين هيكل بنصف قرن، إذ يوثق الدكتور عبد الله إبراهيم نصوصا روائية صدرت في النصف الثانى من القرن التاسع عشر منها، رواية خليل الخورى الموسومة بـ”وى. إذن أنت إفرنجى” التى صدرت في عام 1859، ثم رواية غابة الحق” لفرنسيس مرّاش الحلبي التى صدرت 1865، وبداية من سبعينيات القرن الماضي عرفت الرواية على نطاق واسع، فقد نشر سليم البستانى تسع روايات، ثم شاعت الرواية وعرفت. (يتبع) 

صلاح فضل ومعركة التجريب النقـدي

كتب الناقد المصري الدكتور صلاح فضل كتاب “لذة التجريب الروائي” فى 2005 ، قدم خلاله قراءة نقدية لـ32  رواية، فهل يحق لى ونحن نحتفى بشيخ النقاد العرب، والأب الروحى لإسهام مدرسة النقد المصرية منها بما عنونته  بـ”معركة التجريب النقدي”، ولماذا هذا العنوان الموحى والدال على الاشتباك، والرجل قدم للقارئ العربي عصارة “لذة التجريب الروائي”، يبدو لى أنه ليس هناك ضرورة أو سياق ملزم يجعلنى أقفز إلى الإجابة المباشرة دون أنت أتطرق إلى منجز شيخ النقاد العرب وتأثيره وإسهامه فى المشهد الثقافى الراهن، وما أثار من جدل، وضخ من دماء جديدة فى جسد نظرية النقد لدينا ليخرجها من الركود والتمركز حول التراث، لتتمتع بقدر من المعرفة تستطيع عبرها إضافة مسيرة نقدية جديدة.

1

دعونا نذهب لتاريخ قديم نسبيا، حيث البدايات، تحديدا عام 1978، وهو العام الذى طرح فيه الدكتور فضل باكورة إنتاجه النقدى، منهج الواقعية في الإبدع الأدبي”، و”نظرية البنائية في النقد الأدبي”، سنختص الأخير بالذكر لما أثاره من جدل آنذاك، وقد يكون إلى اليوم وفقما سنبين.

4

استقبل النقاد الكلاسيكيون المحافظون النظرية بمواجهة حادة،  وكال عدد من الأساتذة الاتهامات حول النظرية، وكانوا حريصين على تصنيف صاحبها بالماركسية، وأثاروا شغبا نقديا لايزال يتردد صداه إلى اليوم، دون أن يقدموا تطويرا أو إسهاما يذكر، أو أن يجرؤ أحد تلامذتهم ويقدم مراجعة تذكر لما استنوه فى نظرية النقد ويصوب خطى الأساتذة بعدما ضلت، فوصلنا لمرحلة فوضى المنهج، التى نعانى منها إلى اليوم، فلا هم طوروا القديم ولا خطا أحدهم بمناهج الحداثة خطوات تذكر بتأسيس معرفى متراكم، يسمح بتقديم ما يسمى مجازا بالإسهام العربي فى المشهد النقدي، ولازلنا نعيش على صدى معارف ما ذكره أساتذة الحداثة وفى مقدمتهم الدكتور صلاح فضل، وإن كان القدر رحيما بنا فنرى من وقت لآخر دراسة أو مشروعا نقديا واعيا وطموحا وجادا، وهو ما يصل أيضا لمرحلة الندرة.

7

فضل وناقدوه

انهالت الاتهامات من هنا ومن هناك، من القريب قبل البعيد، ولكن “الزمن أعظم النقاد”، فصلاح فضل كان لديه ما يقوله حقا، وما يطرحه بقوة على الساحة لأن يتبوأ مقعد شيخا للنقاد العرب، مسيرة فضل النظرية وما تبعها من تطبيق على مئات الروايات العربية ألقم الكثيرين حجرا بتعبير أهل التراث العربى.

6

سطر عدد من الأساتذة الكثير من النقد فى حق البنيوية وهم يجهلون مضمونها، كل ما فى الأمر أن مجرد تصريح إعلان الدكتور فضل عن مصادر أثار لديهم فوبيا الغرب إن صح التعبير، فمجرد سماع أسماء أعجمية استفزهم، إذ أين الجاحظ وعبد القاهر الجرجانى، وابن طباطبا، وغيرهم، وما هذا الجديد الذى يتكلم به فضل، وكأن الرجل جاء ليعلن نبوة جديدة ولا يعمل بحقل معرفي يختص بالنقد موضوعا ودراسة وتحليلا ومنهجا.

أشيـــرٌ هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى ما كتبه الدكتور عبدالعزيز حمودة، رحمةُ الله عليه، فى ثلاثيته النقدية، وبناها على بعض القراءات البنيوبة غير الناضجة، وقد انحازت دراسته من البداية ضد مناهج الحداثة شأنها في هذا شأن غيرها من الدراسات النقدية في هذا الشأن، وهى كثيرة، وقد كان الدكتور حمودة محقا نسبيا عن بعض هذه الدراسات إذا ما قرأنا ما رصده من غموض وضبابية فى المصطلح والحدود لدى الدرسات البنيوية التى رصدها، وإذا ما وضعنا فى الاعتبار أيضا ما قاله الدكتور كمال أبوديب عن صنيعه مع  معلقة امرئ القيس، حينما سئل عنه فأجاب: “هذا خطأ الريادة، عليكم تداركه”.

10

لكن الحق أيضا يقال إن الدكتور حمودة لم يتعرض فى دراسته إلى ما كتبه الدكتور صلاح فضل عن البنيوية، وأزعم أن مثل كتابات الدكتور فضل فى هذا الشأن ستنسف طرح حمودة، لذا كان عليه تجنب دراسة البنائية لفضل، وللأمانة هما لم يشتبكا نقديا آنذاك، وأذكر أن الدكتور فضل نأى بنفسه عن نقد الثلاثية حينما سألته فى حوار صحفى ذات يوم وأخبرنى أنه “لم يشبك مع الدكتور  عبدالعزيز حمودة، وبما أنه قد مات ولم أشتبك معه فى معركة خلال حياته، لأننى لست مولعا بالمعارك فلم أنتهز موته لكى أتصارع معه، هذا غير نبيل؛ ولذلك لن أعلق”، وتابع “لكن يشهد الله بأننى فى حواراتى معه، وكان صديقى، شرحت له كيف أنه كان مخطئا وكيف أنه لم يقرأ ولم يستوعب الفكر النقدى العربى الحديث فى أصوله التى فتحت هذه التيارات  على وجه التحديد”.

11

هل كان المشهد الثقافى سيتغير إذ اعترف المجتمع النقدى مبكرا بمناهج الحداثة وعمل عليها بجد واجتهاد وأضاف إليها واستفاد من تطبيقها على المنجز الأدبي، هل كان البعض بحاجة للتنكر لمجهود الرجل وخلط العاطل بالباطل، وعدم الاعتراف بمجهود فضل فى الترجمة والتأليف وهو الذى حمل على عاتقه صليب الريادة والتقديم لأسماء نقاد لم يكن النقد العربى يسمع عنهم آنذاك إلا فى دوائر ضيقة.

9

لست أدرى ما أزمة رجل قرر أن يطور أدواته النقدية ويتسلح بالمعرفة وهو يلتزم بالأمانة العلمية ويعلن عن مصادره فيـُهاجم على هذا شفاهة دون تفحيص علمى لما رصد فى كتابه، فى وقت يتقدم أحد أساتذة دار العلوم بكتاب عن المبنى والمعنى ويوظف منجز البنيوية فى دراسته، بل ويستخدم مقارنة سوسير بين اللغة والشطرنج، دون أن ينسب هذا إلى سوسير، ويتم التعامل مع كتابه على أنه فتح لغوى جديد، (والوصف لى، ورصد المآخذ للدكتور فضل، ويمكن مراجعتها فى كتاب نظرية البنائية)، هذا رغم إشادته بالجهود اللغوية لأساتذة دار العلوم على ضوء نظريات علم اللغة الحديث، بينهم تمام حسان وإبراهيم أنيس وآخرون).

3

 

12.jpg

على ذكر نقض، التى بمعنى الهدم، لدى هنا قصتان، القصة الأولى دارت فى نيويورك عام 1942 وقد حضر عالم الأنثربولوجى ليفى شتراوس محاضرة لرومان ياكوبسون عن اللغة، (وياكبسون، ناقد أدبي روسي، أسهم بنقلة نوعية فى نظرية سوسير عن اللغة، وأكد منهجيته فى كونها مدخلا رئيسيا لدراسة الأدب)، وكان شتراوس يهدف إلى التعرف عن قرب عن نظرية ياكبسون ليدون لغات وسط البرازيل، ولم يكن يعلم عنه إلا القليل، واعترف بعدها فى المقدمة التى كتبها لكتاب ياكبسون ست محاضرات (ولم تنسر هذه المحاضرات حتى عام 1976): “ما تلقيته مما كان يقوم بتدريسه شيئا مختلفا تماما، ولست فى حاجة لأن أقول شيئا أكثر أهمية أكثر من أنه ألهمنى باللغويات البنيوية).

فهل كان صنيع دوائرنا العلمية مع منجز صلاح فضل على هذا النحو.

القصة الثانية:

دعونا نتحدث بالأرقام (بمراجعة كتاب نظرية البنائية الذى كتبه الدكتور صلاح فضل عام 1978 وبالاطلاع على موسوعة كامبريدج فى النقد الأدبي تحديدا المجلد الثامن المعنون “من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية” تحرير رامان سلدن، والصادرة عن المشروع القومى للترجمة فى 2006، أقول بهذه المراجعة نلحظ كم كان الدكتور فضل رائدا حقيقيا ومغامرا قرر اكتشاف غابة النقد، متسلحا بالمعرفة المبكرة والحقيقة عبر ما تسنى له من ترجمات عبرت بوابة إسبانيا.

صدر هذا المجلد فى 2006، هو 13 فصلا، حرره 10 أساتذة وترجمه وراجعة 10 آخرين، وتبنته مؤسسة بعراقة كامبريدج، هذا المجهود نهض به صلاح فضل بمفرده قبل كامبريدج بما يقرب من الثلاثين عاما، وبمجهود لا يقل أهمية فى طرحه، فماذا لو تبني المشهد النقدى رؤيته آنذاك، وإلى أى مدى كانت ستصل آفاق النظرية النقدية، وكم من الإسهامات كان سيحدث فى واقعها، لكن حدث ما حدث وعدنا نتساءل عن جدوى هذه المناهج وحاجتنا للتطوير ولدينا مدونة نقدية لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، وفقا لبعض النقاد، فتعثر المسير.

أطلت الحديث عن نظرية البنائية، وترجع الإطالة إلى أن قصة البنيوية وما حدث معها لم تكن ببعيدة عن كثير من أطروحات الدكتور فضل فقد تكرر الأمر مع أطروحاته عن الواقعية ونظرية الخطاب، وشفرة النص وعلم الأسلوب مبادئه وإجراءاته.

20.jpg

بالأمس كرم المجلس الأعلى للثقافة في مصر الدكتور صلاح فضل، وعمليا أود ن أطرح مبادرة قائمة على المحبة الصادقة للرجل والتقدير المبنى على الموقف، كى لا يكون التكريم مجرد لفتة طيبة حسنة النية، فـ”النوايا الطيبة قد تؤدى للجحيم” كما يقول دانتى، لذا أبادر بدعوة مؤسسات الدولة المعنية بالنشر، أن تلتفت جيدا لما قدمه منجز الدكتور صلاح فضل النقدي، وتعيد نشر منجزه كاملا، نظرية وتطبيقا، لإتاحة علمه أمام الباحثين والمثقف العام بأسعار فى المتناول، دعونا نصنع شيئا ذا قيمة فتقديرنا للدكتور فضل ومنجزه هو تكريم  لنا جميعا ولوجه الثقافة المصرية، تكريم الدكتور فضل بإعادة طبع منجزه النقدي هو لجوء إلى قلعته النقدية لنحتمى بها ونعلن عن وجه من وجوه إسهام المدرسة المصرية فى ظل التطورات النوعية فى هذا التخصص الدقيق، دعونا نفعِّل المبادرة “الأعمال الكاملة للدكتور صلاح فضل”، فلعل هناك من يسمع نداء الحقيقة.

وأخير وبما أننى فتحت باب المبادرة، فأظننا بحاجة إلى “إعادة قراءة منجز هذه المرحلة النقدية، والكشف عن جهود الدكتور فضل فيها وإعادة تقدير منجزه، كل منا من منظوره ومرجعياته العلمية، علنا نستطيع أن نصل إلى شيء يذكر ونرد الجميل للدكتور فضل ولريادته ومجهوده الذى لم يقدر آنذاك، فوصلنا تراثه محفوفا بالحذر والمخاطر والمخاوف من صعوبته ومصادره الأعجمية، وفكره المنظم والدقيق والمنفتح على الآخر!!.

أطلت الحديث عن نظرية البنائية، وترجع الإطالة إلى أن قصة البنيوية وما حدث معها لم تكن ببعيدة عن كثير من أطروحات الدكتور فضل فقد تكرر الأمر مع أطروحاته عن الواقعية ونظرية الخطاب، وشفرة النص وعلم الأسلوب مبادئه وإجراءاته.

“إمبارح كان عمرى عشرين”

 

1

 

حينما تدق الثانية عشرة بعد منتصف ليل الثلاثين من عمرك، فأنت أمام الدقيقة الأولى من عـِقد سيتوقف عليه مصير حياتك، ستقف وتردد إمبارح كان عمري عشرين بملء الفم، وكأنك أمام تاريخ فارق بين الأحلام الكبيرة التي كانت تراود خيالك فى العشرين، وتـَـحطم الكثير منها على أرض الواقع وأنت تقف على خط الحيرة في انتظار ما تبقى منها، ثمة من يقول إن الحلم لا يعرف عمرا ما، وأن كثيرا من التجارب نجحت فى سن متأخرة، لكنى هنا أقف على الخطوط العريضة في التحول الدرامي بالثلاثين.

2

فى العشرين ستكون الحياة أمامك لُعبة متعددة الأدوار، بإمكانك أن تبدأ دورا جديدا، أو تــــــــُنهى دورا أنت على وشك الهزيمة فيه، أو تـُـغير اللعبة إلى أخرى، في الثلاثين أنت أمام دور إجباري فى لعبة ليس بإمكانك تغييرها، تـَـضيق أمامك البدائل، ولا يتوفر لديك رفاهية الاختيار كما فى العشرين، ففي هذه السن ليس بإمكانك أن تتحكم في اللعبة أو فى الاختيارات المتاحة، بل عليك أن تتعامل مع سياسة الأمر الواقع وتـــُعمل عقلك على الانتهاء مما أنت فيه بطريقة خبيرة.

3

في العشرين من عمرك أنت تـــُـؤسس للثلاثين التي ستجني فيها ثمار العشرين وتــــَـنوع الخبرة.. في الثلاثين أنت تتهيأ للحصاد ولن يكون بإمكانك أن تسعى لمزيد من الخبرات لأن مارد الوقت سيداهمك دوما، إذْ تقترب عاما بعد الآخر من الأربعين، حيث عتبات الإشباع من الحياة والتجارب التي مللت منها، وليست لديك رغبة في إعادة إحدى تجاربها.

4

في العشرين أنت غارق في دائرة يتحكم فيها الشخصيات الرموز والأحكام التي تصل حد القداسة، والتي ستتحطم هذه أو تلك أمام ناظريك حين تبلغ الثلاثين، وقتها قد تلتقي رموزك فى مكان ما، وقد يكونوا رؤساءك يوما ما، أو قد تصل لدائرة قريبة منهم، وتكتشف حد الهشاشة والدجل والزيف الذي يسكنهم، ويستمتعون به ومعه، ربما تــُدمر المخيلة الجميلة الصافية التي رُسمت عنهم حين تدرك الصفقة التي عقدها الرموز مع الفاسدين في مقابل أن يكبر اسمهم، ويتم تصنيعهم ليصير رمزك الذي رأيت فيه الحكمة والوعى والبصيرة في العشرين وأصبحت تراه وهما كبيرا في الثلاثين.

5

في العشرين ستصنع صداقات كثيرة، تكتشف زيفها، وتدرك كيف أخطأت التقييم والتقدير، ستـُخدع، ربما يحالفك الحظ وتخرج بصديق تعبر به العشرين قد يستكمل الطريق إلى جوارك، أو قد تتطاير المواقف والأحداث بينكما في الثلاثين من عمرك.

ربما ما قد مر بك فى السطور السالفة مجرد أوهام لثلاثينى يقف على خط اليأس، أو استبد به الإحباط بعد المرور ببعض مما قرأت، أو توقف لديه الشغف بعدما هاجمته بعض من الأمراض التي تطارد كبار السن، ربما.. من حققك أن تكتشف بنفسك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الاستنزاف.. سيـرة حيـاة

كنا حديثي عهد بالحياة فأخبرونا أن الاستنزاف مصطلح عسكري يستخدم بعدما يُدرك أحد خصمي الحرب، أو كلاهما، أنه ليس أهلاً للمناورة المباشرة، فيتحايل على الحرب بمحاولة تشتيت قوة عدوه واستنزافه.

ضربوا لنا مثلاً حرب الاستنزاف التي دارت في سيناء المصرية مع العدو الصهيوني بعد نكسة 67 إلى 1970، حيث قرار وقف إطلاق النار. وحين كبرنا علمتنا الحياة الدرس الذي لا ينسى، صفعنا عملاق الزمن على وجوهنا، وحدق في عيوننا الصغيرة وهو يصرخ أن الاستنزاف آلة طاحنة صنعها الساديون ليمارسوا فنون التعذيب، وهم يلقون بعظام المواطنين وقوداً لإدارة معركتهم مع الحياة.

لا أدري إنْ كنتَ ممن “دللتهُمُ” الأقدار فوهبت لك حياة هادئة، ووُلدتَ وفي فمك ملعقة من ذهب كما يقول المثل المصري، أم أنك ممن “كدَّرتهم” وطعنتك فأساً في رأسك، لتفقدَكَ التوازن الذي ستظل تبحث عنه طول العمر!

كبرنا فعلمتنا الحياة أن للاستنزاف معنى آخر، أكثر اتساعاً ورحابة من أن ينتهي عند هذا النموذج أو نماذج أخرى في حروب البلاد البعيدة، بل هو مستمر ومتواصل في حلقات غير معلومة المدى، وإن أخبرتنا عين الجلاد الحمراء أنها سلسلة من المعارك نخوضها في اليوم والليلة لنحيي العمر ونتأذى بنزيف الروح والعقل، الذي يبلغنا مهالك الجسد، ويتأكد لدينا أننا أموات على قيد الحياة، يتاجر السماسرة بأعضائهم، ويعدّون عملهم مهنة مقدسة، وكأنهم نسورٌ ينتظرون طفلاً بائساً في طريقه لأن يصير جيفة صالحة تتغذى عليها.

1

الحزام الناريّ

ربما تظن أن ما تقرأه فخ بصري يصنعه الكاتب ويستدرجك إليه، ربما!

لكن دعني أزيدك شيئاً من بلاغة الواقع، فإننا من الواقع وإليه نعود.

أتذكّر ذات ليلة، وأنا ابن الثلاثين، أني أصبت بدون مقدمات، بمرض يدعى “الحزام الناريّ”، على نحو ما أخبرني الطبيب، وهو مندهش مما حل بجسدي بين ليلة وضحاها، وأنا في عنفوان شبابي، ويفترض أن تصاحبني مناعة جبارة تدهس هذا “الناريّ” اللعين الذي أحال النهار لليلٍ طال لـ20 يوماً، هي المدة التي كوى بها الحزام منطقة الوسط والفخذ اليمنى حتى ارتوى.

“أصاب الضرّ بدنه، وتملكت الأوجاع من روحه، صار جسده عبئاً على قدميه، تأمل حياته وهو يقف في مفترق طرق تتفرع منه عدة مفترقات كل منها يؤدي إلي طريق سفر لا عودة منه، كان الاكتئاب أول من التقطه في مفترق الطرق، اختطفه كنسر جارح وجد فريسته، اختطفه بمخالبه من دون رحمة وهو يؤثر الوحدة كي لا يعكر صفو أحد وسط محرقة الحياة التي لم تعد تبالي بصراخ الموجوعين، ولم يعد لديها أجوبة على تساؤلات الحيارى التائهين، والتزمت الصمت في وقت يجدر بها الحديث، فحُق له أن يطلق عليها الرصاص، وينهي أمر أوهام تعشش كالعنكبوت على جدرانها”.

كنت أعرف ما الحزام، وما النار، لكن ارتباط الكلمتين ومدلولهما لدى الأطباء كان جديداً على مسامعي: “الحزام الناري”، اسم مهيب أتحسس أثره على جسدي، بعد أن خذلتني قدماي ولم تعودا تطيقان حمله.

أخبرني الطبيب أن أعصابي تجاوزت مرحلة التعب، ودخلت في طور الالتهاب، أوصاني بالتخلى عن التفكير قدر استطاعتي، فلم تعد الأعصاب تحتمل المزيد، وأشار إلى أن هذا المرض يأتي لمن هم فى الخمسين من العمر أو يزيد، بسبب ضعف المناعة.

الألم الذي خلفه الحزام اللعين، أشعرني بأن لوحاً زجاجياً تحطم على جسدى وسكنت شظاياه الجروح التي فتحها بالجسد.

 

“رمته يد الزمن في بئر سحيقة، زاد عواء الريح في كيانه الضعيف، فلم يعد يشعر بيديه ولا بقدميه، استشعر خواء العالم من حوله بعد أن خذله بدنه، ولم يقو على حمله، أصابه الهذيان، بدت له تصاريف الحياة صفقة خاسرة لا طائل فيها؛ بشر يتصارعون على ممالك من السراب، كذبة كبرى تحكم الأفكار تستخدم مسكنات لا جدوى لها، أطبقت الآلام عليه الخناق فتجسد إزاءه شبح الوهم ليخبره أن سلطته مستمدة من المجهول الذي ينتظر البشر، قاوم ليقف على قدميه لكن الزمن نال منها فوقع، ظل يزحف على بطنه ويصرخ بأعلى صوته إلى أن فقده، وسط ضحكات مارد الزمن التي أخذت سمعه وهو حبيس البئر السحيقة لا يسمع أحداً ولا يسمعه أحد”.

دع عنك الأثر النفسي وأنا أصطحب قدمي خلفي أثناء ذهابي إلى الحمام، بعبارة واحدة كنت عاجزاً مؤقتاً عن المشي وأنا في الثلاثين من عمري.

الأصعب من الموت أن تشعر أنك دخلت في النفق المظلم، وترى الحياة تعاد في مشاهد؛ تراها من وراء كاميرا مخرج سينمائي، تستشعر الجميع مرة واحدة، من رحلوا ومن على قيد الحياة، تدرك أدق التفاصيل لأشياء لم تكن تراها، تشعر بانسحاب الروح من أوصالك، بتثاقل جفونك، وإغفاءة عينيك، تدرك ثقل الجسد، تلمس ظلك، ورغم كل هذا تخرج من هذه التجربة حياً، وقتها لن تعود إلى الحياة هذا الإنسان الذي كنته.

بوابة الزيف

لم يكن طبيبي يعلم بالطبع أن وراء “الحزام الناري” ضغط العمل المتواصل الذي لم أعد أتقاضى عليه أجراً منتظماً، في ظل مؤسسة وقعت في فخ الفشل والإفلاس، لظروف متعددة، ليس لها علاقة بقلة من الصحفيين المحترفين المتورطين في العمل بالصحيفة إلى جوار تنابلة السلطان، بقدر علاقتها بظروف التضييق على الساحة الإعلامية في وطن لا يقدَرُ له النهوض.

لكن أصحاب الصحيفة كانوا متمسكين بها، فقرروا أن يستمتعوا بحفل شواء الكادحين، ليظل اسمهم يطرح في الأسواق بشكل يومي، يديرون من خلفه رأسمالهم الذي يقدر بالملايين، ويحققون من وراء “مجلة الحائط” المسماة زيفاً وادعاءً “صحيفة”، وجاهة اجتماعية تصدِّرهم للدخول من بوابة الزيف وليكونوا في صفوة المجتمع الذي لفظهم فعلياً وجعلهم في المؤخرة.

فمن مساخر رأسماليي هذه المرحلة وأنصارهم أنهم كثيرو الحديث عن الخير والمثل والعدل والمعايير، وما يجوز وما لا يجوز، ولا نرى منهم غير الخبث والمراوغة، بعبارة واحدة يستلهمون صورة الملائكة ويتلذذون أفعال الشياطين.

بين المترو والنقل العام

ما إن ينتهي المصلون من أداء صلاة الفجر إلا وتجد كثيراً من سكان القاهرة الكبرى، (البالغ عددهم 22 مليوناً ونصف المليون في 2016، وفقاً للجهاز المركزي)، يتحركون نحو محطات مترو الأنفاق، إحدى أكثر وسائل المواصلات استخداماً في العاصمة، للحاق بأول مترو في تمام الساعة الخامسة، لتبدأ المتاهة في أكبر مدينة عربية مساحة وسكاناً في الدوران، وتطحن في طريقها الغافلين والحيارى.

2

تبدأ أولى رحلات مترو الأنفاق في الخامسة فجراً، (يقل يومياً نحو 3 ملايين ونصف المليون مواطن في 2016، بحسب وزارة النقل)، لتعلن بدء رحلة التيه للمواطنين، واستنهاض ما تبقى من قواهم للشروع في استنزافها، التي غالباً ما تكون بلا معنى أو هدف.

كل منهم وراءه من الهم ما وراءه، ولو أنك من رواد المترو أو هيئة النقل العام ستلحظ، دون عناء أو ذكاء، حركة المواطنين بشكل آلي أثناء التوجه كالآلات نحو المترو أو أتوبيسات النقل العام، وهم أنصاف نيام من فرط الإرهاق، بعدما فقدوا لذة الحياة تحت وطأة استنزاف اليوم السابق، فأغلبنا نحن المصريين يعمل في مهنتين كى يستطيع تغطية مصاريف الحياة والأولاد تحت كرباج الأسعار الذي يكوي ظهورهم به الرأسماليون، وهم يستمتعون بحفلات الشواء الخاصة لضحاياهم، لتزيد كروشهم وتمتلئ خزائنهم سحتاً.

الصخب الكبير

اهبط من الباص أو الأتوبيس لتجد نفسك محاطاً بهالة من ضجيج السيارات الذي يرهق الجميع، ويصنع صخباً غير محتمل، لا يخلو من تحرشات الجنسين، شاب يعاكس فتاة، سيدة تتشاجر مع أخرى، رجل يناور في آخر، شباب يهرجون باستهتار وسط الجموع دون أدنى مسؤولية عما يجري من حولهم.

المطاردة

تذهب إلى عملك لتجد الموظفين وقد جاءوا بما لذ وطاب من عربات الفول، الوجبة الأم لدينا نحن المصريين، باستثناء أولئك الذين أحكم القولون قبضته عليهم. لاحقاً تبدأ رحلة الشاى، ليكون الجمهور أمام هذه الشبابيك أو المكاتب بعد دقائق، هذا إن كنت موظفاً، أما لو كنت صحفياً فهذا شأن آخر له دوي في صالات التحرير الصباحية لمطادرة الأخبار هنا وهناك.

كما أن لفئة السائقين طقوساً لها خصوصيتها، الكل يناورون ويهادنون ويحاربون ويطحنون من أجل لقمة العيش لينتصف اليوم، ويذهبوا لأعمال أخرى ربما يتبادلون فيها الأدوار، وإن لم يخل الأمر من تعصب هذا على هذه، وهذه على هذه، فلا شيء يعلو على ضجيج العاصمة، صاحبة المركز الثاني أفريقياً والسابع عشر عالمياً على مستوى التعدد السكاني.

ينتهي اليوم كما بدأ

ينتهي اليوم في المساء بالناس نياماً بالمواصلات العامة كما بدأ بالناس نياماً أيضاً في الصباح الباكر؛ أقدام تحمل فوقها أجسادًا منهكة، تذهب إلى أَسرِتها مرهقة، ورغم ذلك يظل الأرق يراود الكثيرين منهم عن نفسه، مطاردات تتضمن تفاصيل اليوم، تترجم كل هذا الصخب والضجيج من العقل الباطن للعقل الواعي، ليظل العقل يحرث في بحر الحياة يقظة ومناماً.

أخبره الطيب عن المآسي والويلات التي سيواجهها، حدثه عن الصراخ والعويل المكتوم بداخله، حذره من كونه يلقي بنفسه في الجحيم وهو يدرك صنيعه، ظن أن المريض غلبه أمره ولم يعد يصغي إليه أو يسمع سوى صدى صوته. كال له عدد من الأمراض النفسية والعصبية التي يمر بها، وفاته أن المريض لم يكن لديه اختيارات بديلة بل كان عهده مع الحياة مساراً إجبارياً.

شخّص كل ما يمر به وغفل أنها حالة مغامرة متمردة لا بديل عنها قد تبدِلُ الأدوار بينهما.

كيف تمر أيام الحياة في بلادنا يا ترى؟ وما عساها أن تكون غير ملحمة استنزاف كبيرة؟ من منا نجا أو ينجو على الدوام من هذا المهلكة، وكم مرة؟ وما نسبة تأثره بها بشكل مباشر أو غير مباشر.

نحن نعيش على قضبان قطر الحياة، إن لم نكن نحن القضبان، نحيا على الهامش فمتى يقدر لنا أن نكون في قلب الحياة، هذا هو السؤال الذي نقضي الحياة بحثاً عن إجابة قد ترضي عبثية المشهد والفوضى التي تدب بين أركانه.