محمود درويش.. الظلال تطارد ملك الصدى (1 – 2)

في السابعة من عمره، وفي إحدى ليالي الصيف التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل، أيقظت الأم ولدها محمود من نومه فجأة، وجد نفسه مع المئات من سكان قريته في الأراضي المغطاة بأشجار الزيتون، والرصاص يتطاير فوق رؤوسهم، وهم يهرولون لمغادرة قرية “البـــِروة” من الجليل قرب ساحل عكا بفلسطين إلى جنوب لبنان.

تضع مجريات أحداث ووقائع تلك الليلة المخيفة نهاية مأساوية لطفولة محمود درويش المبكرة، لتلقي بها الأقدارُ “في النارِ؛ وفي الخيمةِ؛ وفي المنفى” دون سابق إنذار. يلتفت الطفل حوله، ربما تمد له البراءةُ يدَ العون، وتكشف حقيقة ما يدور حوله، وما خبأته له الأقدار، فلا يرى سوى الطفولة التي تغادر روحه أمام عينيه، وتستبدلها بهموم وأوجاع وأحزان الكبار التي تسكنه، وتحرك بداخل وجده ووجدانه إلهاماً مبكراً يدرك عبره سلطة الكلمات التي ستطوف العالم إلى يومنا هذا.

في عام 1995، جسّد محمود درويش ليلة التهجير هذه في ديوانه “لماذا تركت الحصان وحيداً؟”، فجاء فيها “يقول أبٌ لابنه: لا تخف/ لا تخف من أزيزِ الرَّصاصِ/ التصق بالترابِ لتنجو/ سننجو ونعلو على جبلِ الشمال/ ونرجعُ حين يعودُ الجنودُ إلى أهلهم في البعيد). يُسائل الطفل الأبَ: (ومَنْ يسكنُ البيتَ من بعدنا يا أبي؟)، فيجيبه: (سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي)، يعيد الطفل السؤال بصيغة أقرب إلى البراءة: (ولماذا تركتَ الحصانَ وحيداً؟)، فيجيب الأب بحسرة وانكسار: (لكي يؤنسَ البيتَ يا ولدي/ فالبيوتُ تموتُ إذا غاب أصحابـُــها؟)

8

مأساة اللجوء المبكر

على هذا النحو أُجبر الطفل محمود، المولود في 13 مارس (آذار) عام ،1941 بصحبة والده المزارع، وأم قروية وثلاثة إخوة، عددهم آنذاك، بالإضافة إلى المئات من أهالي قريته، على النزوح القسري من قرية “البـــِروة” في الجليل الغربي بفلسطين إلى القرى اللبنانية بعد النكبة الفلسطينية في شهر يونيو (حزيران) عام 1948، ليصيروا لاجئين بعدما استوطن الإسرائيليون قرى الفلاحين ودفنوا الحقيقة تحت تراب أراضيهم.

عاد درويش مع عائلته متسللين إلى البِروة بعد أكثر من عام، وفوجئوا بأن الاحتلال استبدل الأرضَ بغيرِ الأرض، ولم يعد لقريتهم وجود على جَسد الخريطة، بعدما اُغتصبت بليل، وأحيطت بالأسلاك الشائكة، وطُمس اسمُها، وصارت مستوطنة باسم عبري تدعى “أحيهود”، تخلصاً من الهوية الفلسطينية، وتهويداً لأراضيها.

اضطر درويش بصحبة عائلته إلى الانتقال إلى قرية غير قريته، تدعى “دير الأسد”. وكما عاد درويش إلى وطنه متسللا، التحق بالمدرسة الابتدائية متسللا، ليطارده وصف “المتسلل” ويصير له قدرا، وفقا لروايته. فكلما داهم المدرسة تفتيش من وزارة “المعارف” الإسرائيلية، كان المدرسون، الذين تعاطفوا بالطبع مع الطفل محمود، يخبئونه إلى أن يعبر العابرون، كي لا يتعثروا فيه ويطرد.

33

هذا الطفل النازح الذي عاش حياة اللاجئين في لبنان تسربت إلى طفولته المبكرة معاني الحرب، والمطاردة، والحدود، والعودة، والوطن، والتسلل، هي التي شكلت بداخله مفهوم القضية الفلسطينية التي سيصير شاعرها، يُعرف بها وتـــُعرف به أينما حل؛ سيصير “شاهد المذبحة وشهيد الخريطة”، على نحو ما عبّر في قصيدة الأرض، سيصير أيضا لسان شعب بأكمله، ويجسد عبرها أزمة الهوية الثقافية التي طمسها الاحتلال، ليعود إلينا من “حضرة الغياب”، ونحتفي بذكرى ميلاده الثامن والسبعين اليوم، ونكشف معاناة درويش على ذيوع صيته في الشرق والغرب، لنردد معه أنشودته “أنا مَلكُ الصدى، لا عَرشَ لي سوى الهوامش”.

درويش الذي جسَّد، إلى جوار آخرين بالطبع، وقائع ومجريات القضية الفلسطينية عبر منجزه الشعري، لم يستطع أحد من أقرانه الركض خلف تحولاته الشعرية والجمالية التي نصّبته رمزا يَستعصي نسيانُه على ذاكرة الشعر العربي الحديث، أو التنكر لمنجزه الذي يربو على الثلاثين إصداراً، بينها 23 مجموعة شعرية، بدأت بديوان “عصافير بلا أجنحة” عام 1969، وهو في سن التاسعة عشرة، مرورا بـ”أثر الفراشة” في 2006، وانتهاءً بديوان “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”، الصادر بعد وفاته في 2009، بالإضافة إلى إصداراته النثرية التي بدأت عام 1971 بكتاب “شيء عن الوطن”، و”يوميات الحزن العادي” 1973، و”ذاكرة للنسيان” 1987، و”في حضرة الغياب” 2006، و”حيرة العائد” 2007.

1

قبل الحنين إلى خبز أمه

أضف تعليق