أرشيف الأوسمة: الشقاء

كاميرا الحياة (8).. داخل المعترك خارج الحياة

أنصت إليها بقلبه، وحينما شعر أن لسانها تعطل عن الكلام، قاطعها ليخفف من وقع اللحظة، ليروي لها ويكسر حاجز الملل، فأخبرها، أما أنا يا صديقتي، فقد بلغت من الهموم عتياً، صرتُ كما يقول الشاعر “كهلاً صغير السن”. شقتني الأوجاع شقاً منذ وقت طويل، لم تكن لدي رفاهية أن أخلق عرائسي على نحو ما صنعتي كي أحكي لها وأتناقش معها وأملي عليها ما تفعل وما لا تفعل. فقد دُفعت بين الحشود وضجيج السيارات والباصات وحواري المدينة كي ألملم رزقي من هنا وهناك. رزقي الذي بُعثر في الطرقات وعليّ أنا لا غيري من يجمع شتاته، كما يروي البعض.

2

الأصوات الصاخبة لرواد الشوارع أعلى من أن تسمع فيه صوتَ أنفاسك، ولو حدث، وشرد ذهنك فقد اقترفت جريمة لا تغتفر، تستيقظ منها على دبيب أكتاف المارة. ولو لم تنتبه وتتأهب، ربما تُدهس تحت الأقدام ولن يسمع أحد صراخك، لذا لا مكان لمتلفت هناك. لكن هل يصح هنا الاستشهاد بأدبيات أهل التصوف، وقولهم “المتلفت لا يصل” ليجسد المشهد على سبيل المجاز؟!

ربما لم أكن أعرف أهل التصوف بعد، ولم أسمع عنهم، وإن رأيت الدراويش والمجاذيب الذين أشار حدسي نحوهم بشعور غريب شاركوني فيه وتبادلناه، ولم يتوقف أحد منا ليسمع الآخر. فكلانا يدرك القوانين جيداً، لذا لم تتحدث الشفاه وإن التقطت العيون الإشارة. 

ما الذي جاء بنا إلى هنا!

 من خيالك الرحب في قلعة طفولتك المحمية بالحراس والمحيطين بك ومن يقدم النصح والإرشاد، إلى شوارع ضيقة بأنفاس البشر التي لا تُحصى. قانونُها يُدرك بنظرة عين، ويعني ببساطة “استنهاض حواسك، ووعيك كي تحمي جسدك الضعيف وتستطيع الوصول”، وقتها، ووقتها فقط ستدرك أن قليلي الحيلة، والجهلاء بهذا القانون فقط، هم من يحاولون أن يعطلوا المسير بالتهليل في الطرقات الضيقة، وإثارة الشغب، أما العارفون فيدركون دائما ألا وقت هناك لشيء سوى ما ذهبت لقضائه. 

هل يشبه المشهد هنا غابةً يتحرك بين أشجارها ودروبها القطيعُ، ويكون قانونها البقاء للأقوى أو للأصلح، ربما!

نظر في عين صديقته فأشفق عليها بعدما رأى الزحام الذي يروى لها عنه وقد تحرك بداخلها، وارتفع ضغط دمها للمفارقة الشاسعة بين المشهدين (ما روته وما وضعها أمامه من وقائع وأحداث). فهل أراد صدمتها بمشاركة الحديث معها، في محاولة لإيقاظ حواسها لعوالم أخرى أكثر شراسة على أرض الواقع عن تلك التي تدور في خيالها؟ ربما.

لكنه شعر في النهاية أن لابد للحكاية أن تكتمل، ولو في عجالة، كي تصل الرسالة على النحو الذي يريده، لتستكمل هي بدورها الحديث.

الحياة 2

تابع، أتعرفين يا صديقتي، المأساة هنا ليست في تفاصيل المشهد بقدر ما هي في الصراع القائم من أجل لا شيء.. أتعرفين معنى اللا شيء؟

همس في أذنها إنهم يهرولون من أجل الشقاء والكدح، فأبواب الجنة لم تكن مفتوحة هناك ليسارعوا إلى دخولها فتطيب لهم الحياة!، فلم يكن هناك سوى الجحيم مجسد، يهرول الجميع، كلٌ في طريقه كي يجلب رزقه من محجر الحياة بعد أن يستحلب الصخر؛ بضع جنيهات تكفل لهم تغطية يوم من أيام الحياة التي تخلو تماماً من الحياة، فهي جنيهات لا تصنع شيئا أكثر من سد الرمق، وربما تكفي بالكاد تلبية احتياجات الأسرة. وتنفد من أيديهم بمجرد تسلمها والتفكير بما يتوجب عليهم سداده، ليبدأ يوم جديد، بشقاء جديد، تماما كصخرة سيزيف كما تروى الأساطير.

دعيني أوضح لك الأمر على نحو أكثر دقة.

لفترة طويلة من طفولتي، وبعدما اشتد عودي عملت بالمقاولات، كنتُ ورفاق الكدح نقضي النهار في تكسير الجدران وتشوين الطوب وتحميل الأسمنت، وأحياناً الرخام باهظ الثمن.

أتذكر أنه كان هناك نوع من الرخام لونه أحمر بدرجة جميلة يعمل على تشوينه مجموعة من العمال، كنت من بينهم. وأخبرنا الصنايعي بفخرٍ وهو يوصينا به خيراً، ويعرفنا إليه، أنه يسمى “لحم هوانم”. وهو واحد من أرقى وأغلى أنواع الرخام حينها.

 في الحقيقة لم أسع للتحقق من الأمر، واستقصاء هل كان الاسم دارجاً بين الحرفيين، من عدمه، ولماذا لقبوه بهذا اللقب. مرت أيامي بين العمال والحرفيين على نحو كان يمتلأ بالحكايات الغريبة التي قد تصل إلى حد الأسطورة.

لحم هوانم

الأهم من هذا وذاك أننا بعدما نقضي اليوم من الثامنة إلى السادسة؛ أي من مطلع الشمس  إلى مغربها، ونتناول عشاءنا كنا ننام فرحين، لأن مشرف الأعمال أخبرنا أن سيارة رمل سوف تأتي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وعلينا تشوينها إلى الداخل قبل أن يمتلا الشارعُ بالمارة، ويأتي موظف الحي، تجنبا لتحرير مخالفة لمالك العقار، يدفع على إثرها غرامة إشغال طريق، بالإضافة إلى تحميل مخلفات الهدم التي قمنا بها في الصباح، وهو ما يعني لنا يومية أو يوميتن زائدتين على ما نحصل عليه، كنا نهرول إلى هذا بإرهاق مميت وبفرحة غامرة.. ألم أقل لك منذ قليل إنهم يهرولون إلى الشقاء؟،

أي جنون هذا الذي يسعى إليه الفقراء، وقليلو الحيلة؟

ألم يكن أولى بهم أن يتباطأوا في جني الشقاء الذي لا حيلة له في جلبه؟

لكنهم معذرون، فأن يفكر أحدهم على هذا النحو، فهذا يعني أنه سيكون في العراء، وربما يموت جوعاً، فلا حيلة لديه سوى قواه الجسدية التي تتآكل مع الأيام، بعدها يتولاه الرب!

 

الحياة 3

 

مرت الأيام، وتنقلت في عدد من الأقاليم أعمل في تشييد مبنى هنا، وهدم آخر هناك، وأنا أتأمل شئون الله في خلقه، أرى الفقراء والأثرياء ومن هم دون ذلك، عشت حياتي أملأ عيني بالمشاهد والمواقف، ربما تظنين أن في هذا ثراء قد لا يوقعني في المخاوف والاكتئاب، الحقيقة قد يكون معك حق وإن كنا سنختلف في التفسير، إذ ليس هناك وقت للخوف وأنت داخل المعركة، وإلا ستدهس على النحو الذي أخبرتك عنه في بداية الحديث.

 

الحياة 4

 

تنهد بعدما غلبه الوجع إثر الحكايا، وأخبرها كي ينهي ما شرع في بدئه: أحاديث كثيرة تختزلها الضلوع، تختلف وقائعها لكنها تتفق على دورانها في فلك الهزيمة والانكسارات والمذلة والجبر والاستغلال. لعل المنحة هنا تتجسد في الوعي المبكر للحياة التي أورثتني إياها! وربما كانت في واقع الأمر محنتي الكبرى، لست أدري. ربما سأروي لك عنها لاحقاً، بعد أن نقف على أطراف مدن خيالك ومن وقع عليهم اختيارك ليشاركوك آمالك وطموحاتك وتُملي عليهم ما يدور في ذاكرتك.

 للحديث بقية

كاميرا الحياة 7.. أمام المرآة