المـدّاح مكرم المنياوى.. «القديس» يدخل بيت النبــوة

قالوا لى وحّـد الواحد،، ده الكل هيزول ولا يفضل غير الواحد،،

مسلم مسيحى ده احنا كلنا واحد…» 

أخبرنا المدّاح المسيحى الراحل مكرم المنياوى عن البداية: “في بداية الطريق كنا واخدين المهنة فن شعبى، بصينا لقينا السهرات تجمع نصارى ومسلمين، فدخّـلنا الإنشاد في السهرة بحدود 70%، بقيت أقول في الرسول مفيش واحد مسيحى بيزعل، أقول في العدرا مفيش واحد مسلم بيزعل، فتلاقى الأطراف كلها مبسوطة، خاصة أن واحد قبطى بيمدح في الرسول، وده نادر”.

«يا مصر يا أم الكرم فيك الكرم ظاهر
وفيك أم المخلـِّص ونورها زى القمر ظاهر
وفيك الحسن والحسين ومقامهم الطاهر»

مكـرم المنيـاوى

بضغطة زر على مواقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» ستـُظهر لك نتائج البحث صفحتين للمطرب الشعبى، المـدّاح مكرم المنياوى، يتردد على أحدهما 23 ألف متابع، وعلى الثانية 18 ألف متابع، وبتصفح موقع الموسيقى والصوت «ساوند كلاود»، ستلحظ كما كانت مواويل مكرم ملجأ لكثيرين، استهوتهم سحر كلماته ووجدوا أنفسهم وهمومهم بين حروفها وموسيقاها، فتجد بعض المقطوعات الموسيقية وقد تجاوزت الـ305 آلاف مستمع، وتأرجحت أخرى بين الـ60 والـ80 والـ100 والـ200 ألف  مستمع من دون جهد دعائى، على نحو ما هو معروف عن الكثيرين من مشاهير عوالم التواصل الاجتماعى، وهو ما يكشف عن جماهيرية الرجل وتمكن محبته من قلوب الكثيرين فى زمن دهست آلة الحداثة الكثيرين تحت عجلاتها.

لعل أشهر هذه المقطوعات الصوتية (جاد المولى القديمة، جاد المولى الجديدة، قصة شلباية، أيوب ورحمة، خضرة والسماك، أندرو وأحلام،الحلوة شاغلة بالى، الطبيب والعليل، موال الزمن، مظلوم وراضى، العربى والمصرى، صبري وبدر والصاحب كامل، وعدو الحبايب، يا أخويا ليه بعتني، هانم والدكتور، بياع الدهب، المركب، الزمن، عدوا الحبايب، يا قهوجى باشا، سبع الرجال،… إلخ).

«يوم شرقوا الركب ع النبى كنت أقرط على النابات
والورد كان شوك فتح للرسول ونبات
تصرف جنيهك للحبايب تتعوض ألوفات» مكرم المنيـاوى

وعن مخاوف مدح النبى وهو المسيحى، في وقت تهاجم التيارات المتطرفة أهل الطرق الصوفية من المسلمين، بل تنتقدهم بعنف، قال المنياوى:  “موضوع مسلم ومسيحى تفرق مع الراجل اللى مبدأه خفيفه، (أما اللى أساسه سليم متفرقش معاه).. إيه مسيحى وإيه مسلم.. ده قضيتى أنا وربنا، أنا فرقتى 12 نفر “موسيقى”، كلهم مسلمين، ومشفتش الموضوع عمره مسلم ومسيحى، هما أهلى”. 
عن سبب مدح النبى والمسيح معا، وعدم تخوفه من تطاول ألسنة الناس عليه وأنه يرتزق من هذا، قال الشيخ مكرم، كما يروق لأهل الصعيد أن يلقبوه: “أنه لا يمدح النبي ولا المسيح من امبارح، فقد بدأ المديح من عام 1965، أنا غنيت بقرش، ونشدت بقرشين، والمديح مينفعش يبقى تجارة”.
كتب مكرم  أكثر من 80 قصيدة مديح، بعضها يجمع رموزا مسيحية وإسلامية، وأشار إلى أنه اختار المديح الدينى، رغم أنه كان بإمكانه أن يحقق دخلا أكبر لو اكتفى بالأغانى العاطفي، ليؤكد أن الإنشاد الدينى ليس تجارة”.

«سبـّـوا الشريفة قالوا لها خدى ابنك من هنا وامشى
بيّن عجايبه المسيح فينا قبل ما يمشى
نادم على ليعازر قال له هلم خارجا قام م التراب يمشى
مريض على بركة سلوام 38 سنة
قال له قوم احمل السرير وامشى
واللى يحبك ييجى لك ع القدم يمشى» مكرم المنياوى

تابع الرجل: “مفيش خوف من الزمن على مصر مادامنا نسيج واحد، ومصر مش هتنضام، ولا هتجع “تقع” لأن فيها أولياء وناس صالحين، مصر منصورة مادام فيها الحسن والحسين، المسيح دعا لها: مبارك شعب مصر”.

هو القبطى مكرم جبرائيل غالى، الشهير بـ«مكرم المنياوى»، مواليد عام 1947 بقرية بنى أحمد الشرقية التابعة لمركز مغاغة بمحافظة المنيا، مواطن بسيط عاش داخل قرية كباقى أبناء جيله بمحافظة المنيا، دخل المدرسة ولم يستمر بها طويلًا، عمل في الزراعة، بعدها امتهن الخياطة التى ورثها عن والده، فتنه الفن فشرع في المديح وهو ابن السابعة عشرة من عمره وكان هذا فى منتصف الستينيات.
تأثر المنياوى بعبد الرازق العربى، الذى ترجع أصوله إلى عرب الطيبة بمركز سمالوط بالمنيا، وهو أحد المداحين الذين أحبهم “مكرم” واقتدى به، وعمل معه لمدة عامين، بعدها نزل الموالد من بينها، السيد البدوى والحسين العارف بالله، بدأ الشاب مكرم، آنذاك، يردد ما حفظه من أصحاب الموّال، والمدّاحين، وبمرور الوقت، كانت له كلماته التي يؤلفها ويغنيها، فى حب الرسول و”آل البيت”.
كان موال الزمن أول ما تغنى به عام 1967، واستمر ينشد حتى بلغ إنتاجه 300 شريط كاسيت، المعروف منها 130 تقريبًا، وكلها تحتوى على مقطوعات يمدح فيها النبى، ولعل موال “قصة أولاد جاد المولى ولملوم”، وراء شهرته ذائعة الصيت جنوب مصر آنذاك، “وهى قصة شعبية وقعت فى مغاغة فى عزبة تدعى “الأقفاص” عام 1936، وتروى سيرة الصراع بين العائلتين على الانتخابات، وأضفى عليها مكرم خيالا فنيا ألهب حماس المستمعين، ولم يغب عنه أن يبتكر لها موالا جديدا”، حسبما أعلن في أحد الحوارات الصحفية عام 2016.

 

«هات القلم واكتب عن الظالمين
بحق رسول الله تبعدنا عن الظالمين» مكرم المنيـاوى

 

قرأ مكرم في الفلسفة الإسلامية، ودرس السيرة النبوية، وحفظ آيات من القرآن الكريم، كان يمتنع عن إحياء أى موالد أو أفراح خلال شهر رمضان، ويواصل حفلاته بعد انتهاء الصيام، بل كان يصوم مع أهله وجيرانه من المسلمين طوال النهار ويشاركهم الإفطار مع أذان المغرب، حسبما صرح في حوار صحفى، ولعل هذا ما دعاه إلى تأليف المدائح عن شهر رمضان.

 

ألف المدائح فى النبى وآل بيته (الحسن والحسين والسيدة زينب)، وامتدح المسيح والسيدة العذراء، كل هذا جنبا إلى جنب، ليتربع الرجل على عرش الموال والقصة الشعبية والمديح في صعيد مصر لما يقرب من 55 عاما، إلى أن وافته المنية الأسبوع الماضى عن عمر يناهز 71 عاما إثر أزمة قلبية.
    
بسؤاله حول الأغانى التى امتدح فيها الرسول أشار إلى أن من بينها «ليلة ميلاد النبى، ودينى يا دليلى، فاطمة يا فاطمة، يا سيدة يا سيدة، قلبى صلى على النبى المكروم».
وتابع: “كتير بيسالوا إزاى ده قبطى ويمدح الرسول.. إحنا أهل واللى ما يرضيش أهله ميبقاش منهم، والفنان ميزان ما يملش، يقولوا كمان إزاى مكرم اللى داقق صليب على إيده بيمدح فى الرسول،”أنتم مالكم ومال مكرم والرسول، خليكم فى حالكم”.

«يا أم المسيح ده إحنا الكل محاسيبك
إن سابك الكل أنا وحدى ما حا اسيبك
بحق عمانوئيل تخلينا محاسيبك» مكرم المنيـاوى

 

طاف مكرم بفنه ربوع مصر من الإسكندرية إلى شلاتين، وفقا لتعبيره، بموالدها المسيحية والإسلامية، كان من بينها إحياء حفلات بمولد العذراء، وميت دمسيس، ودرنكة، ومولد عبدالرحيم القناوى، وسيدى الفرغلى بأبو تيج بأسيوط، والسيد البدوى فى طنطا، والحسين بالقاهرة، ودار الأوبرا المصرية، والعارف بالله في سوهاج، ولم يتوقف الأمر على الموالد داخل مصر فحسب، فقد غنى في فرنسا في تسعينيات القرن الماضى، وأحيا 5 حفلات بالعراق.

المحبة وحرب الشائعات 

لعل أول الشائعات التى طاردت الرجل كانت إعلان وفاته قبل عام 2015، ربما تحايلا من البعض على الرزق، أو غيرةً من سيرته ذائعة الصيت، شائعة وفاته لم تكن الأخيرة في حرب الشائعات، بل أعلنوا أن الرجل اعتنق الديانة الإسلامية لإثارة الجدل حوله؛ ربما يرجع ذلك إلى مدحه النبىَّ مُحمدٍ. 
 محبة المسلمين قبل المسيحيين لمكرم، جعلت البعض يجزم بأن الرجل غـيَّـر ديانته، لكنه أكد أنه “لايزال يعتنق المسيحية”، واعترف أيضا بأنه “يقرأ القرآن الكريم، ويحفظ عددًا من آياته، بل حريص على سماعه بأصوات الشيوخ أحمد نعينع، والشيخ محمد صديق المنشاوى، والشيخ الفولى، باعتباره مقدسا كالإنجيل، فكلاهما كتاب مقدس أنزله رب العالمين”، وأشار إلى أن “منزله يضم آيات من القرآن على نفس الجدار الموضوعة عليه صورة السيدة العذراء، المسيح”، وفقا لما أعلنه في حوار صحفى.

 

ابن الشيخ مـداح 
أشار الشيخ مكرم، كما يحلو لبعض أهل الصعيد أن يلقبوه، إلى أن نجليه ماهر وهانى، صارا على نفس النهج فى الموال والقصة الشعبية، ووصلا  إلى مدح شخص رسول الإسلام مُحمدٍ، يقول الرجل: (هناك شريط جمعني ونجلي ماهر مكرم المنياوي بعنوان «عادت أيام زمانى»، كما شاركانى نجلى ماهر وهاني بالعديد من الموالد والاحتفالات الشعبية بمختلف محافظات الصعيد والدلتا، وورثا الموهبة منى، ومن بين هذه المواويل «ابكى يا عين، حرام يا صاحبى، دوار يا زمن، زمن العجايب، عادت تاني أيام زمانى، وقاسى يا زمن»).
جدول أعمال مكرم وأبنائه الثلاثة الذين يعملون معه فى مهنة الإنشاد، كان يمتلئ بدعوات من سكان القرى لإحياء الحفلات، وكان مكرم يرى في هذا دعوة للتعايش في سلام، ولهذا السبب أيضا أرجع حبه واحترافه المديح فى مرحلة مبكرة من عمره”.

وصية الأب

(سير على نهج مديح النبى.. وحافظ على النسيج “نسيج الوحدة الوطنية” يا ولدى)..  كانت هذه هى وصية مكرم المنياوى لولده هانى،  الذى قال إن جنازة والده شُيعت من كنيسة السيدة العذراء بقرية بني أحمد الشرقية، وكان العزاء مقاما بالقاعة الملحقة بالكنيسة.
وأشار نجل المنياوى إلى أن آخر أعمال والده الفنية كانت فيديو كليب بعنوان “يا دار قوليلي”، بينما آخر حفلة أحياها كانت منذ فترة طويلة بإحدى قرى مركز أبوقرقاص بالمنيا.
وأضاف هانى أن الناس استحسنت صوت والده منذ كان شابا يافعا وأثنت على فنه، بعدما مس وجدانهم دون ابتذال، حتى أنه كان يرفض الغناء أمام راقصة.
وكان المنياوى الكبير، برر رفضه لوجود راقصة بقوله: (أرفض الوقوف أمام الراقصات، لأن اللى بيقف أمام رقاصة يبقى “أراجوز”، مش فنان، لأن الفن معنى وكلمة وإحساس وروح مش رقص وتنطيط).
 وأكد المنياوى الابن، أن أباه كان له عشاق كثيرون داخل مصر والدول العربية، وأحيا حفلات لا حصر لها، وسافر لدول أوروبية بفنه الأصيل،  ورغم مسيحيته اشتهر بالبراعة في مدح النبى محمد، والعدرا والمسيح، وختم حديثه بقوله: “يعد فن أبى رسالة لنشر السلام والتآخى بين المسلمين والمسيحيين في مصر”.
وهو ما تؤكده مسيرة المنياوى وسيرته، وقوله: “المديح يعزز التقارب بين المسلمين والأقباط.. أريد أن أزرع الود والمحبة بين المسلم والمسيحى.. أن أجعلهم يشعرون أنه ليس هناك فرق بين مسيحى ومسلم”.
أما السيدة سميرة، زوجة مكرم، فتقول عنه: “مفيش فرق بين مسلم ومسيحى.. مكرم كان نصه مسلم ونصه مسيحى”.

 

مسيحى يمدح بيت النبوة 

عصام ستاتى، الباحث فى المصريات والفولكلور، يرى أن “مكرم المنياوى” نموذجٌ فنى فريد، ثرىٌ فيما يطرح من موضوعات للمديح، فهو المسيحى الذى قدم المدائح المسيحية والنبوية معا، وقد كان طرحه هذا غريبا على الكثير؛ أن يقدم فنان مسيحى “مدائـحَ نبويـة”.
وأضاف صاحب كتاب “مقدمة فى الفولكلور القبطى”: “مكرم فنان معجون بطين هذه الأرض، (عابر للجغرافيا والعقائد)، ترى فيه التواصل المصرى دون قطع أو انفصال، مصر التى أراها أنا أيضا كذلك، وأكتب عنها وتمثل داخلى هذا التواصل، وقد التقط الأديب الراحل خيرى شلبى، هذا الترابط، حينما عرفت مكرم عليه، فقال: “أنا أمام مسيحى يقدم مدائح نبوية، ومسلم يقدم لنا الفولكلور القبطى، هذه هى مصر؛ المتماسكة بعاطفة وحب لا توجد فى العالم”. 

«البتـول».. مكرم يجمع فنون الصعيد والدلتا

يغوص بنا عصام ستاتى إلى مساحة أعمق لدى مكرم المنياوى فيقول، “مكرم فى روايته لقصة “البتول”، كان فنانا حقيقيا يجمع كل الفنون المصرية السائدة في قبلى وبحرى، إذ قدم فيها قالب التلتات الصعيدى، والموال القالب؛ سواء كان الرباعى أو السباعى، ويقدم أيضا الموال الحر، خارج القولبة أو القوالب، وهذا الثراء لن تجده إلا فى الفنانين الموهوبين الذين يشبهون مكرم. 
سألته عن الفارق بين هذه القوالب بين الصعيد والدلتا فأخبرنى: “الموال له قوالب معروفة فى كل مصر، لكن هذه القوالب يتمسك بها أهل الدلتا؛ (ابتداء من الموال الرباعى بأشكاله، والخماسى الثابت، والسباعى وفردية العد حتى 13، بينما الصعيد يعتمد على شكلين للغناء هما التلتات والمربعات، وهم يمثلان القصص والسير، وأحيانا المدائح العامية، لكن مدائح الفصحى دائما تقدم أشعار كبار المتصوفة.

يختتم الباحث حديثه: “عندما عملت على قصة البتول فى “الفولكلور القبطى”، كنت أنتظر نظريا أن أجد نفسى أمام قصة طائفية، حسبما صَـدَّر لنا بعض الأساتذة المختصين بهذا الشأن، إذ أخبرونا أن “السير والملاحم فى منطقتنا لابد أن تمر بالموروث العربى الإسلامى”، واكتشفت وأنا أمام “البتول” أكذوبة حكمهم، وهو للأسف وَهمٌ تعلمته أجيال من بعد أجيال، نص البتول مكننى من ضرب هذه النظرية، وضربت مثلا بحرب البسوس التى تـُصدر إلينا على أنها موروث عربى وإسلامى، وهذا غير حقيقى أيضا، إذ إن الغساسنة كانوا مسيحيين تابعين للروم؟، ، وقد فتح لى نص مكرم وغيره من الفولكلور القبطى كشف أكاذيب المقولات الجاهزة.

أضف تعليق