صامولي شيلكه.. باحث أوروبي ينقب داخل الشخصية المصرية

أتذكر اندهاشي بمشهد القاهرة التي كانت بالنسبة لي أقرب إلى اليونان أو فرنسا، لكن أكثر ازدحاما، بالإضافة إلى سيطرة لون التراب الغامق الذي يميز ها، هذا الاندهاش كان من الأسباب التي شجعتني على الاهتمام بالواقع المعاصر بعيدا عن الصور النمطية والسياحية”…

بهذا يصف شيلكه أولى خطواته لحظة وصوله القاهرة بعدما طاف كثيرا من بلاد العالم؛ ألمانيا والسويد وهولندا وتركيا.. حركت مصر بداخله المعرفة، ووجدها مادة ثرية للبحث، تجول في  جنوب البلاد وشمالها، بعدما احتذبه المولد، وقرر إعداد مشروع ماجستير ودكتوراه عنه، استغرق 15 عاما رصدا وتحليلا، وأسفر عن كتاب “مخاطر  الفرح”، المنشور بالإنجليزية التي يتقنها إلى جوار 4 لغات بالإضافة إلى لغته الأصلية الفنلندية.

 

صامولي شيلكه ـ تصوير محروس شحاتة

صامولي شيلكه، عالم الأنثروبولوجي، المولود في هلسنكي، عاصمة فلندا عام 1972، درس اللغة العربية في مدينة بون الألمانية، وأتقنها في مصر وهو في العشرينيات من عمره، بعد الانتهاء من دراسته عام 1991، قضى بعض الوقت يتنقل حول شرق أوروبا والشرق الأوسط، عمل في الصحافة ولم يطب له المقام، فغادرها إلى البحث العلمي.

رفض أن يهتم بقضايا الاستشراق الذي يقول عنه: “يعد الاستشراق في مصر سبًا وإهانة، ففي الخيال الوطني والديني المستشرق هو من يشوه الإسلام والحضارة الإسلامية، مع أن واقع الاستشراق زمن دراستي، في أواخر القرن العشرين، كان مختلفا جدا عن صورته في أذهان العرب، فـ”كثير من الطلاب والأساتذة في أقسام الاستشراق يحترمون الحضارة الإسلامية، وعدد كبير منهم مسلمون من أصول عربية أو تركية أو إيرانية”.

على أية حال، لم يكن الاستشراق لـ”شيلكه”: “ملهما في فهم الثقافات والمجتمعات كظاهرة تاريخية أو كمنظومة فلسفية”، في وقت كان يسعى لتعلم (كيف يعيش الناس اليوم وكيف يشعرون ويفكرون؟). لذا آثر ترك مجال الاستشراق.

حصل على منحة دكتوراه في الأنثروبولوجي، “علم الانسان”الثقافي والاجتماعي،  كباحث في المعهد الدولي لدراسة الإسلام في العالم الحديث بـجامعة ليدن الهولندية، وحصل على الدكتوراه في 2006 من جامعه أمستردام في العلوم الاجتماعية، بعدها عمل مدرسا في قسم الأنثروبولوجي والدراسات الأفريقية في جامعة يوهان جوتنبرج في ماينتس الألمانية وجامعه شرق فنلندا منذ عام 2009، كما عمل باحثا زميلا في مركز بحثي يدعى “زنترم للتوجيه الحديث” في برلين بألمانيا من 2010 لـ2014، وجه أبحاثه آنذاك حول أوروبا، ولم يغفل النظر عن أفريقيا والشرق الأوسط.

 

 3

توقع الهجرة والحراك الاجتماعي في أوروبا وسط ظروف من عدم المساواة المحلية والعالمية، كتب أيضا عن ثورة 25 يناير  (هنتأخر ع الثورة)، يعمل حاليا على “الكتابه في الإسكندرية بعد 2011″، وتحديدا عن التغييرات التي ظهرت في الأدب، والعلاقة بين الناس والحكومة، وآراء وأفكار الحكومة المصرية عن (الهجرة، والزواج، والحياة، وطموحات الناس)، إجمالا كل ما يهم الناس من تفكير وسلوك منذ عام ثورة يناير 2011.

 

لم يكن علم الإنسان الاجتماعي والثقافي، هو الذى اجتذب شيلكه فحسب، فقد شارك في صناعة 3 أفلام وثائقية: “رسائل من الجنة ج 1، بين مصر والنمسا، عن الحنين الدائم لمكان آخر” (44 دقيقة في 2010)، والثاني “العاصمة السرية (28 دقيقة 2013م) وهو عن مصر ، والثالث “الجانب الآخر مصر  وهولندا” (9 دقائق 2010م)، الثاني والثالث بالاشتراك مع الكاتب المصري مختار سعد شحاتة.

يقول الأنثروبولوجي الفلندي: ” كانت زيارتي الأولى لمصر سنة 1991 وكانت زيارة سياحية تماما، لكنها كانت سببا لاهتمامي بمصر فيما بعد. هناك موقف مهم مازلتُ أتذكره، هو وصولي في القاهرة للمرة الأولى. كانت الصورة النمطية عندي من الوطن العربي صورة بدوية، مكونة من الكوفيات والجمال والصحارى والواحات. وقبل أن أصل إلى مصر كنت قد زرت الأردن الذي يسمح للزائر أن يحتفظ بهذه الصورة النمطية في بعض الأحيان على الأقل. جئت بالعبـَّـارة إلى نويبع ثم الأتوبيس إلى مدينة نصر، وأخيرا الترام إلى ميدان التحرير (كان ترام مصر الجديدة يصل حتى التحرير في ذلك الزمن).

يتابع شيلكه: “علاقتي مع مصر لم تتعمق إلا منذ سنة 1997 عندما جئت مصر بغرض دراسة العامية المصرية، فقد أوصى أساتذتنا في الجامعة بالإقامة في الوطن العربي فترة، إذا أردنا أن نتعلم اللغة العربية ومظاهر الحياة الاجتماعية”.

كانت إذن علاقتي بمصر شخصية في المقام الأول ثم أصبحت مهنية في المقام الثاني عندما استطعت أن أتخصص كباحث ومحاضر جامعي في دراسات أنثروبولوجية لمصر المعاصرة. ولعل في ذلك سر “تمصري” إن صح التعبير.

 

غلاف كتاب مخاطر الفرح

 

المولد صدفة اجتذبت شيلكه

عن سر اجتذاب المولد لـ”شيلكه”، كى يعد عنه دراسة الماجستير والدكتوراه يقول: “كانت صدفة، فقد حضرت مولد السيدة زينب في سنة 1997، بدعوة من أصدقاء لي، فجذبتني الحالة الاحتفالية، ولفت نظري اختلافات الرأي حولها، وعندما بدأت برسالة الماجستير قررت أن أحلل مواقف مختلفة حول الموالد، لكن الاحتكاك الحقيقي مع عالم الموالد والدراويش لم يبدأ الا عندما بدأت العمل على رسالة الدكتوراة سنة 2001”.

يتابع شيلكه، “في البحث لرسالة الدكتوراه زرت ما يزيد على 20 مولدًا في مختلف أنحاء مصر معظمها موالد المسلمين للأولياء، ومنها أيضا بعض موالد المسيحيين للقديسين. لكن تركيزي في البحث كان على القاهرة وطنطا ودسوق وقنا. ورغم انتهائي من البحث منذ سنوات فإنني لأزال أزور الموالد بشكل شخصي دون غرض علمي”.

وعن وجه تأثره بالموالد يقول: “اكتشفت فيها ما يكفي لكتاب كامل والمزيد، ويكفي أن أقول أنني تعلمت الكثير من المجتمع المصري لأن المولد يجمع الجميع، وكذلك تعلمت عن قيمة الحالة الاحتفالية كتعبير عن بُعد أساسي من إنسانياتنا”.

حميثرة الذي لا ينسى

عن أكثر مشهد فارق في حياة الرجل، أخبرنا أنه كان في حميثرة حيث مولد أبوالحسن الشاذلي: “كان زيارتي لمولد سيدي أبي الحسن الشاذلي في وسط الصحراء في محافظة البحر الأحمر. سكان حميثرة الأصليين من العبابدة لكن زوار المولد يأتون من كل أنحاء مصر، خاصة الصعيد. المنطقة بعيدة، والطريق طويل جدا، ثم فجأة تجد نفسك في وسط تجمع بشري مهول في وادي حميثرة، جميعهم مثلك؛ أتوا من أماكن بعيدة لكي يحتفلوا بالمولد معا”.

 صادف الرجل المجاذيب والدراويش وشيوخ الطرق، يقول عنهم: “بعض المجاذيب قد يمكن اعتبارهم مرضى نفسيا، والبعض الآخر اختاروا ذلك الأسلوب من الحياة. الشيء الجميل أن الجميع مرحب به في المولد أيا كان حال عقله.. يرى بعض المتصوفة أنك لن تعرف العارف بالله من ظاهره، ولعل حال بعض المجاذيب يكون عندهم أفضل مقاما من كبار المشايخ”.

وعما إذا كان لديه أصدقاء من بينهم، أخبرني:  “تعرفتُ على الكثيرين منهم لكن أصدقائي من الوسط الصوفي ليسوا من المجاذيب، بل من الدراويش، والدرويش عكس المجذوب إنسان عاقل لكنه سالك في الطريق، وقد يمضي جزءا مهما من حياته في الموالد”.

693

وعن مشايخ الطرق الصوفية يذكر: “علاقاتي بالمشايخ في الغالب قليلة، وانحصرت على حوارات ومقابلات رسمية. من تعرفت بهم بشكل أقرب كان لهم عدد قليل من المريدين، أو كان منهم أشخاص مخلصين للطريق من صغرهم حتى وفاتهم، وآخرون كان حولهم بعض الخلاف”.

يرصد صامولي الطبقات الاجتماعية التي ترتاد المولد، وزيادة عدد الزوار بعد ثورة يناير 2011: “المسألة معقدة بالنسبة للطبقات الاجتماعية، فستجد أناسا من كل الطبقات تقريبا، لكن ليس من كل التوجهات الاجتماعية. ففي فترة دراستي للدكتوراه كان واضحا أن نسبة كبيرة من المتعلمين ونسبة من غير المتعلمين أيضا تأثروا بخطاب حركات الإصلاح الديني مثل السلفيين والإخوان، فبدأوا يعدون الموالد بدعة محرمة”.

يتابع:  “في نفس الوقت اعتبر الكثير من الطبقات الوسطى الموالد أيضا نوعا من أنواع التخلف المضاد  للحداثة. وكان أثر هذه الأفكار واضحا، فنسبة الشباب في الموالد كانت قليلة في تلك الفترة، وكان أغلب الزوار من كبار السن، ولكن الوضع تغير كثيرا مع الثورة فمنذ سنة 2011، هناك زيادة ملموسة في عدد زوار الموالد، وكذلك هناك زيادة في نسبة الشباب من مختلف الطبقات الاجتماعية”.

أرجع شيلكه الاحتفال بالموالد إلى الدولة الفاطمية، وإن كانت مرتبطة بشكل واضح بانتشار الطرق الصوفية في كل بلاد المسلمين منذ القرن الـ12 والـ13 الميلاديين”، وفقا للرجل.

 يستطرد: “يجوز أنه دخلت فيها بعض الآثار من الموالد القبطية. وبسبب هذه الصلة ستجد أيضا بعض التشابه ما بين الموالد في مصر واحتفالات القديسين عند الكاثوليك في أوروبا”، لكنه نفى تماما أن تكون الموالد تراث فرعوني، فهناك تشابه كبير بين موالد الأولياء المسلمين في مصر وفي بلاد أخرى. فتجد احتفالات بشكل متشابه تحت تسميات مختلفة في إندونيسيا والهند وباكستان والمغرب والسنغال وغيرها، وكانت هناك احتفالات مثلها في الحجاز قبل حكم آل سعود.

عن مصاعب الاحتفال التي رأها في المولد يرصد أن بعض الناس لديهم تحفظات، “فالاحتفالات المختلفة تخلق أيضا صورة وممارسة مختلفة، لذلك تجد بعض الحركات السياسية والاجتماعية والدينية تعترض على بعض أنواع الاحتفال والفرحة، ولكن ليست كلها ضد الاحتفال والفرحة عامة، وإن كانوا يخافون من أنواع معينة من الاحتفال والفرحة، خاصة الفرحة من أجل نفسها التي تصعب توظيفها في مشروع ثوري أو إصلاحي. هذا ما قصدت بـ”مخاطر الفرحة” في كتابي.

يتابع شيلكه: لكن الوضع يختلف على حسب نوعية السلطة والإصلاح اللذين تستهدفهما حركة اجتماعية أو سلطة سياسية ما. فمثلا أنصار الحداثة أو “النهضة” في مصر شاركوا مع التيار الإسلامي القلق من الموالد لأنها لا تخضع لأيديولوجياتهم، ولا تنفع كوسائل لتحقيق أهدافهم السياسية أو الأخلاقية.

يستكمل: أما الدولة فلها مواقف مختلفة. في عصر حكم مبارك كانت وزارة الداخلية والجهات الأمينة تقلق من الموالد باعتبارها حالة ليست تحت السيطرة التامة أبدا، ولا تعبر عن الصورة الرسمية التي أرادت الدولة أن تصدرها في الداخل والخارج. لكن الحزب الوطني كان علاقته بالموالد والطرق الصوفية ممتازة، وكانت موالد بالنسبة له فرصة لكسب علاقات الوساطة. كذلك نجد أن النظام الحاكم الحالي في مصر  يحمي وحتى يشجع الموالد والتصوف أولا بسبب الخلاف المذهبي بين الصوفية من جهة والسلفيين والإخوان من جهة أخرى، وثانيا لأن التصوف في معظم تاريخه كان وما زال حركة مسالمة سياسيا.

 2

لا يرى شيلكه أنه هناك ثمة صراعا واحدا قائما باستمرار بين الشرق والغرب. هناك صراعات مختلفة ترجع بعضها إلى الاستعمار الأوروبي واستمرار الهيمنة الأمريكية والأوربية بعد الاستعمار، وردود أفعال في مختلف أنحاء العالم على تلك الهيمنة. ولكن لا يوجد صراع واحد مستمر كما لا يوجد شيء اسمه “الغرب” أو “الشرق” فأين في هذه الصورة مثلا تحالف ألمانيا مع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى؟ أو تحالف دول الخليج مع أمريكا وضد إيران حاليا؟ أو تدخل مختلف القوى في الحرب الأهلية في سوريا؟ أو الحروب التي حاربها دول غربية ضد بعضهم البعض؟

عن أزمة اللجوء والإرهاب التي تهدد أوروبا يقول الرجل: المشكلة تبدأ عندما نذكر المهاجرين واللاجئين والإرهابيين في نفس الجملة. لماذا؟ أرى أن الإرهاب في أوروبا يرجع إلى صراعات اجتماعية موجودة منذ عقود، لم يتم حلها بشكل إيجابي حتى الآن، ولابد أن نتذكر أن ما يسمىَ بـ”محاربة الإرهاب” قَتَل أعدادا تزيد عن أعداد الذين قُتلوا على يد إرهابيين. أنا ضد الحرب أولا ثم ضد الإرهاب.

يضيف شيلكه: سيستمر هذا الصراع المأساوي لأن كل رد عنيف على عنف الطرف الآخر يعطي مبررا جديدا لعنف جديد ضده فيرد ثم نرد… أما المهاجرون واللاجئون فقضيتهم قضية مختلفة، يثيرون القلق في أوروبا في ظروف إعادة تركيب الاقتصاد والسياسة، أو ما يسمى بالليبيرالية الجديدة، مما يجعل كثيرا من الأوروبيين يخافون على وظائفهم، واستقرار أسلوب حياتهم. المهاجرون جزء من  ذلك التغيير الاجتماعي الواسع النطاق، وليسوا سببه. لكن الصورة الكاملة صعب استيعابها.

25987

عن ظهور داعش وتوغلها يرصد أنها نتيجة لأربعة أسباب: “لا أظن أن داعش صنيعة أحد، كما لا أعتقد أنا أحدا غير الدواعش نفسهم قصد أو تعمد ظهور داعش. (ذلك لا ينفي أن هناك من يستفيد منهم أحيانا.) لكن داعش بلا شك نتيجة لأربعة عوامل مهمة: أولا السياسات المستبدة والطائفية في الوطن العربي، ثانيا الاحتلال الأمريكي للعراق والصورة التي أخذتها المقاومة ضدها، ثالثا التمييز العنصري في أوروبا، وأخيرا تطور وانتشار حركات سياسية ودينية (وغير دينية أيضا) حديثة ترفض الآخر وتقدس العنف.

عن حاضر ومستقبل المنطقة العربية، يرى الباحث في علم الإنسان وتحليل الطبقات الاجتماعية أن  هناك بعض الأمل في تغيير بعض المجتمعات العربية إلى مجتمعات أكثر تعددية وأقل عنفا، لكن البعض الآخر يحدث فيها الآن دمار من الصعب إصلاحه. وهناك أكبر التهديدات والمشاكل التي أراها مرتبطة بتغيير المناخ العالمي مع زيادة السكان وزيادة استهلاك الطاقة والماء والأرض والموارد ومع غياب سياسة جادة لحماية الطبيعة التي لا يمكننا أن نعيش دونها. فمصر، على سبيل المثال، من أكثر الدول في العالم مهددة بتغيير المناخ والتلوث ونقص الماء واستنزاف الأراضي الزراعية، فأخشى أن تكون هناك أزمات أو كوارث من هذه الجهة خلال عقد أو عقدين.

أضف تعليق