أسعد الله أوقاتك
عزيزتى توليـن
أحدثك كصديق قديم جاء إلى العالم قبلك، وحمل إليكِ رسالةً احتفظ بها في صندوق الزمن ليتركها بين يديكى.
لا أعلم، كم سيكون عمرك العقلى وأنت تطالعين هذه الرسالة، ولا كيف تستقبلين إياها؛ هل ستعدين هذه السطور وصايةً؟، أم حَجــْــرًا على حياتك؟، أم سترين المكتوب الذى بين يديك مجرد إرث تركه لك الأب، وأنت لا تزالين فى بطن أمك النبيلة، أم سترين فيها نبوءةً ودليلا للحياة التى لم أرها بعد، لكنى أتلمسها فيكِ؟.
(1)
عزيزتى تولى
مهما كان رد فعلك تجاه ما أكتب، فإنى أؤكد حقكِ فى الاختيار، وحقك فى تقرير مصيركِ، فأنا هنا ومنذ قررت الأقدار مولدك لم أعد فى اللُعبة سوى “الظل”، نعم مجرد ظل، ليس فى هذا ما يعيب، بل إنه فى حقيقة الأمر يدعو إلى الفخر، أو هكذا آمل.. آمل أن يكون ما قدمت إلى جوار ما ستقدمينه مجرد ظل.
أطلت عليكِ فى مقدمة الرسالة، لكن اعذرينى، فأنا وأنتِ أبناء زمنين مختلفين، فقد جئتُ إليك ضيفا من العالم القديم على نحو ما أخبرتك، فليتسع صدركِ لما أقول، دون وصايةٍ منى عليكِ.
(2)
عزيزتى،،
أكتب إليكِ فى زمن اختلطت فيه الأمور، وفقد الزمن بوصلته، واختفت المعايير لأمر لا أحد يعرف سببه، ولم يعد أحد منا يدرك ما نعيش فيه على وجه الدقة، بل يصعب حتى على العالمين ببواطن الأمور تـــَـوقُع ماذا سيحدث وفق مقدمات ونتائج الأمور؟، بل لن أخفيكِ سـرًّا، لا أحد هنا لديه يقين ماذا يجرى من حولنا؟، وأخشى أن يحول الزمنُ بينى وبينَكِ ونقع فى خلاف لا مبرر له سوى سوء الفهم بين جيلين، وبُعد المسافات بين زمنين، أنا أخشى أن أفقد وَنسكِ، لذا لزم التنويه، وطالت المقدمة.
(3)
تولين،،
حقيقة لا أعرف من أين أبدأ؟
لكن اسمحى لى بدعوتك إلى “المقهى” كى أشرب قهوتى وتطلبين أنتِ ما تريدين، فنحن فى زمنك أنتِ، لا زمنى أنا، ويحق لكِ أن تطلبى ما تريدينه، ربما يكون هذا هو أول ما أود إخبارك به:
ألا تـُـجبرى على فعل شىء..
كونى أنت يا صديقتى، لا أحدَ غيركِ، حينما ستكبرين سترين أشكالا وألوانا من الحياة، ستسمعين وتقرأين عن عالم الموضة، فاختارى ما يروق لشخصيتك؛ ما يتناسب مع لون بشرتك؛ ما تشعرين فيه بذاتك، لا بذاتٍ تسكنُكِ، أو تسيطر على ناظريكِ.
ستكبرين وتعرفين الكثير عن الماكياج، هذا العالمُ الذى دومًا كنتُ على حذرٍ منه، لا أعنى بالطبع أدوات الزينة والتجميل هنا، فلكِ منها ما تشاءين، وما يروق لكِ، ويُجسدُ رُوحكِ أنت لا غيرك، كما سبق واتفقنا.
أدعوك يا عزيزتى أن تكونِ حذرة فى هذا العالم الرحب الذى يُجمـِّل القبيحَ، ويُظهر الأمورَ على غير حقيقتها، فهو عالم يتوارى فيه البشرُ وراء أدوات من البهرجة الكاذبة، حاذرى أن تخدعكِ المظاهر، كونى من أهل الباطن الذين يمكنهم من نظرة عين أن يخترقوا ممر الـرُّوح، ويُسقطوا أقنعة الزيف من المانيكان المتستر بالأقمشة باهظة الثمن، أن يقرأوا ما يدور فى خبايا النفس، ويكتشفون ما يحاك لهم من فخاخ.
نعم، يا تولى، دربى نفسكِ على ألا تنخدعى بما يقال من كلام تملأه الزينة والبهرجة، انصتى دائما لصوت الحقيقة، والتقطى من الحقيقة دوما من بين سطور الرسالة المقدمة إليكِ.
أعلم يا ابنتى أنى أثقل عليكِ، لكن إن كنتُ لأحدثكِ عن عالم الزينة والتجمل، سأقول لكِ تزينى بما يليق بروحكِ، واكتشفِ سريعا من يعلقون الزينة على أجسادهم، كونى من أهل الروح تُهبك الحياةُ الحقائقَ مجسدةً دون عناء، واعلمى أن الأشياء تنكشف بأضدادها، بانعكاساتها، فإذا أردت أن تعرفى حقيقة الأشياء فتأملى عكسها، وقتها ستهبك “الرؤيــا” حقيقة الأمر، وحاذرى أن تـَرين الناسَ والأشياءَ بعينٍ واحدة، فتعيشين بعاهة العور طوال عمرك رغم عينيك الجميلتين، أنيرى أضواء عقلك كاملة، افتحى نوافذك على العالم كى ترزقى الرؤية الكاملة.
(4)
عزيزتى تولى،،
أفترض أنك ذكية بما يكفى لالتقاط الإشارة، وأرى فى عينيك سؤالا واضحا عن الناس فى بلادى، ماذا تريد أن تخبرنى عنهم؟، ماذا عن قلوبهم؟، وماذا صنع الزمانُ بهم؟، بل ماذا عن الحب؟! هل تخشى يا صديقى القديم أن تحدثنى عن الحب؟
هذا هو المقصد يا عزيزتى، دعينا نبدأ من حيث انتهيتِ.
الحب يا ابنتى هو الحياة، فلم يذق معنى الحياة من لم يحب، ولكن قبل أن نخوض فى أحاديث الحب، دعينا نتفق على مفهوم الحب، فالناس فى هذه البلاد القاسية يرددون كلمة الحب لأول عابرٍ يمر بحياتهم، حتى فقدت الكلمة معناها، ولم يعد يدرك أحد ما الحب، سوى أنه فخ يستدرك به وإليه الضحية، ليمارس عليها سلطته وسطوته التى حذرتكِ منها فى بداية حديثنا، فهل تذكرين؟
سأحدثكِ هنا عن الحب، الذى يخشى كثير من الآباء أن يزين الغواية فى عين ابنته، لكن أنا هنا صديقك القديم، كما اتفقنا، أم أنكِ نسيتى؟!.
الناس فى بلادي يرون الحب فى الجسد، فى الكلام المبهرج، فى الرومانسية المفرطة تجاه الأشياء والأشخاص، دون تمييز بينها، كل هذا يا عزيزتى أعراض للحب، سأخبركِ بالقليل فأقول لك:
ــ “الحب هو أن تجدى نفسك فيما تصنعين، هو موقفٌ نبيلٌ من الحياة، تصرفٌ مسئولٌ من شخص إلى شخص.. الحب حرية؛ حرية أن تصنعين ما تريدين لا ما يُفرض عليكِ صنيعه، الحب كرامة؛ أن تشعرى باستقلاليتك لا بمذلتك، أن يكون أطرافه شركاء لا ظلال لبعضهم البعض، الحب هو أن ترين ذاتـــَـكِ فى الشريك، ويرى الشريك ذاته فيكِ، أن يمد بعضنا يد العون لبعض، لا أن ينفى أحدنا الآخر، فإنْ لم يكن فأظن، وبعض الظن إثم، أنه يسمى أى شىء آخر، فكم من مريض نفسى كان المُحَب لديه وسيلة لممارسة تسلطه وجنونه وقصور مفهوم الحياة لديه، وكم من ضحية وقعت تحت السكين باسم الحب؟”
ـ لكن لماذا اختزلنا الحب على هذا النحو؟
ــ ولماذا لم نسأل عن الذات التى تحب؟
ـ أوليس جديرًا بنا أن نسأل عن الذات يا تولين؟
عزيزتى،
ابدأى بحب نفسك، دون أن تقعى فى الأنانية، فالحب عطاء، اعطى نفسك كل شىء، كونى لها كل شىء، اخلصى فيما تقدمينه لنفسك فى كل صغيرة وكبيرة، إلى أن تجدى ذاتــَــكِ فيما تصنعين، فلن يستطيع أحد أن يحب أو يعطى وهو يكره نفسه، وهو لم يستطع أن يقدم لنفسه حبا حقيقيا، اقتربي من نفسك، تحدثى إليها، آمنى بها، حققى ما ترينه صالحا، ويصنع فارقا فى الحياة، بعدها حبى كما شئتى، بعدما تتحققين من الأمر.
لا تغادرى مقام السؤال، دوما اسالى نفسك من الضفة الأخرى، عن جدوى ما يحدث؟، وهل غياب الشىء أو الشخص يصنع فارقا؟ وإذا ما تحققتى، اصنعى ما يمليه عليك ضميرك بنفس راضية، اعطِ ثقتك وعطاءك شريطة الشراكة لا الامتلاك.
(5)
أما عن البلاد،،
فالحقيقة لست أعلم أى مقهى نجلس عليه أنا وأنتِ؟، وفى أى البلاد نحن؟، فقد اتخذت قرارا أن تنشأى فى بلاد آمنة، تحترم الإنسان بداخلكِ، تقدرُ عقلَكِ دون أن تنظر إلى جسدك على أنه سلعة أو أداة، كنت أخطط للهجرة من بلادنا إلى بلاد تتحدث لغة غير التى أكتب إليكِ بها الآن، فأين نحن؟، صدقينى لم أعد أعرف، لكن ما أدركه يقينا أن سر قوتك فى أى مكان تحلين به، هو عطاؤكِ، العطاء يا تولين أعظم ما يهبه الإنسان للإنسان، لكن عليكِ التأكد أنك تزرعين العطاء فى أرض صالحة، لا أرض بور.
أطلت عليكِ، ربما نتحدث فى وقت لاحق عن أمور وأشياء كثيرة، تكونين أنتِ بطلتها لا أنا، فلم أعد فى اللعبة كما أخبرتك فى البداية سوى الظل.
حتى نلتقى: “كونى قوية،، كونى أنتِ،، كونى بخير”.
صديقك القديم