رسالة إلى توليـن

أسعد الله أوقاتك

عزيزتى توليـن

أحدثك كصديق قديم جاء إلى العالم قبلك، وحمل إليكِ رسالةً احتفظ بها في صندوق الزمن ليتركها بين يديكى.

لا أعلم، كم سيكون عمرك العقلى وأنت تطالعين هذه الرسالة، ولا كيف تستقبلين إياها؛ هل ستعدين هذه السطور وصايةً؟، أم حَجــْــرًا على حياتك؟، أم سترين المكتوب الذى بين يديك مجرد إرث تركه لك الأب، وأنت لا تزالين فى بطن أمك النبيلة، أم سترين فيها نبوءةً ودليلا للحياة التى لم أرها بعد، لكنى أتلمسها فيكِ؟.

tulin flower

(1)

عزيزتى تولى

مهما كان رد فعلك تجاه ما أكتب، فإنى أؤكد حقكِ فى الاختيار، وحقك فى تقرير مصيركِ، فأنا هنا ومنذ قررت الأقدار مولدك لم أعد فى اللُعبة سوى “الظل”، نعم مجرد ظل، ليس فى هذا ما يعيب، بل إنه فى حقيقة الأمر يدعو إلى الفخر، أو هكذا آمل.. آمل أن يكون ما قدمت إلى جوار ما ستقدمينه مجرد ظل.

أطلت عليكِ فى مقدمة الرسالة، لكن اعذرينى، فأنا وأنتِ أبناء زمنين مختلفين، فقد جئتُ إليك ضيفا من العالم القديم على نحو ما أخبرتك، فليتسع صدركِ لما أقول، دون وصايةٍ منى عليكِ.

 

6

(2)

عزيزتى،،

أكتب إليكِ فى زمن اختلطت فيه الأمور، وفقد الزمن بوصلته، واختفت المعايير لأمر لا أحد يعرف سببه، ولم يعد أحد منا يدرك ما نعيش فيه على وجه الدقة، بل يصعب حتى على العالمين ببواطن الأمور تـــَـوقُع ماذا سيحدث وفق مقدمات ونتائج الأمور؟، بل لن أخفيكِ سـرًّا، لا أحد هنا لديه يقين ماذا يجرى من حولنا؟، وأخشى أن يحول الزمنُ بينى وبينَكِ ونقع فى خلاف لا مبرر له سوى سوء الفهم بين جيلين، وبُعد المسافات بين زمنين، أنا أخشى أن أفقد وَنسكِ، لذا لزم التنويه، وطالت المقدمة.

(3)

تولين،،

حقيقة لا أعرف من أين أبدأ؟

لكن اسمحى لى بدعوتك إلى “المقهى” كى أشرب قهوتى وتطلبين أنتِ ما تريدين، فنحن فى زمنك أنتِ، لا زمنى أنا، ويحق لكِ أن تطلبى ما تريدينه، ربما يكون هذا هو أول ما أود إخبارك به:

ألا تـُـجبرى على فعل شىء..

كونى أنت يا صديقتى، لا أحدَ غيركِ، حينما ستكبرين سترين أشكالا وألوانا من الحياة، ستسمعين وتقرأين عن عالم الموضة، فاختارى ما يروق لشخصيتك؛ ما يتناسب مع لون بشرتك؛ ما تشعرين فيه بذاتك، لا بذاتٍ تسكنُكِ، أو تسيطر على ناظريكِ.

ستكبرين وتعرفين الكثير عن الماكياج، هذا العالمُ الذى دومًا كنتُ على حذرٍ منه، لا أعنى بالطبع أدوات الزينة والتجميل هنا، فلكِ منها ما تشاءين، وما يروق لكِ، ويُجسدُ رُوحكِ أنت لا غيرك، كما سبق واتفقنا.

أدعوك يا عزيزتى أن تكونِ حذرة فى هذا العالم الرحب الذى يُجمـِّل القبيحَ، ويُظهر الأمورَ على غير حقيقتها، فهو عالم يتوارى فيه البشرُ وراء أدوات من البهرجة الكاذبة، حاذرى أن تخدعكِ المظاهر، كونى من أهل الباطن الذين يمكنهم من نظرة عين أن يخترقوا ممر الـرُّوح، ويُسقطوا أقنعة الزيف من المانيكان المتستر بالأقمشة باهظة الثمن، أن يقرأوا ما يدور فى خبايا النفس، ويكتشفون ما يحاك لهم من فخاخ.

نعم، يا تولى، دربى نفسكِ على ألا تنخدعى بما يقال من كلام تملأه الزينة والبهرجة، انصتى دائما لصوت الحقيقة، والتقطى من الحقيقة دوما من بين سطور الرسالة المقدمة إليكِ.

أعلم يا ابنتى أنى أثقل عليكِ، لكن إن كنتُ لأحدثكِ عن عالم الزينة والتجمل، سأقول لكِ تزينى بما يليق بروحكِ، واكتشفِ سريعا من يعلقون الزينة على أجسادهم، كونى من أهل الروح تُهبك الحياةُ الحقائقَ مجسدةً دون عناء، واعلمى أن الأشياء تنكشف بأضدادها، بانعكاساتها، فإذا أردت أن تعرفى حقيقة الأشياء فتأملى عكسها، وقتها ستهبك “الرؤيــا” حقيقة الأمر، وحاذرى أن تـَرين الناسَ والأشياءَ بعينٍ واحدة، فتعيشين بعاهة العور طوال عمرك رغم عينيك الجميلتين، أنيرى أضواء عقلك كاملة، افتحى نوافذك على العالم كى ترزقى الرؤية الكاملة.

download

(4)

عزيزتى تولى،،

أفترض أنك ذكية بما يكفى لالتقاط الإشارة، وأرى فى عينيك سؤالا واضحا عن الناس فى بلادى، ماذا تريد أن تخبرنى عنهم؟، ماذا عن قلوبهم؟، وماذا صنع الزمانُ بهم؟، بل ماذا عن الحب؟! هل تخشى يا صديقى القديم أن تحدثنى عن الحب؟

هذا هو المقصد يا عزيزتى، دعينا نبدأ من حيث انتهيتِ.

الحب يا ابنتى هو الحياة، فلم يذق معنى الحياة من لم يحب، ولكن قبل أن نخوض فى أحاديث الحب، دعينا نتفق على مفهوم الحب، فالناس فى هذه البلاد القاسية يرددون كلمة الحب لأول عابرٍ يمر بحياتهم، حتى فقدت الكلمة معناها، ولم يعد يدرك أحد ما الحب، سوى أنه فخ يستدرك به وإليه الضحية، ليمارس عليها سلطته وسطوته التى حذرتكِ منها فى بداية حديثنا، فهل تذكرين؟

سأحدثكِ هنا عن الحب، الذى يخشى كثير من الآباء أن يزين الغواية فى عين ابنته، لكن أنا هنا صديقك القديم، كما اتفقنا، أم أنكِ نسيتى؟!.

الناس فى بلادي يرون الحب فى الجسد، فى الكلام المبهرج، فى الرومانسية المفرطة تجاه الأشياء والأشخاص، دون تمييز بينها، كل هذا يا عزيزتى أعراض للحب، سأخبركِ بالقليل فأقول لك:

ــ “الحب هو أن تجدى نفسك فيما تصنعين، هو موقفٌ نبيلٌ من الحياة، تصرفٌ مسئولٌ من شخص إلى شخص.. الحب حرية؛ حرية أن تصنعين ما تريدين لا ما يُفرض عليكِ صنيعه، الحب كرامة؛ أن تشعرى باستقلاليتك لا بمذلتك، أن يكون أطرافه شركاء لا ظلال لبعضهم البعض، الحب هو أن ترين ذاتـــَـكِ فى الشريك، ويرى الشريك ذاته فيكِ، أن يمد بعضنا يد العون لبعض، لا أن ينفى أحدنا الآخر، فإنْ لم يكن فأظن، وبعض الظن إثم، أنه يسمى أى شىء آخر، فكم من مريض نفسى كان المُحَب لديه وسيلة لممارسة تسلطه وجنونه وقصور مفهوم الحياة لديه، وكم من ضحية وقعت تحت السكين باسم الحب؟”

ـ لكن لماذا اختزلنا الحب على هذا النحو؟

ــ ولماذا لم نسأل عن الذات التى تحب؟

ـ أوليس جديرًا بنا أن نسأل عن الذات يا تولين؟

ضى القمر

عزيزتى،

ابدأى بحب نفسك، دون أن تقعى فى الأنانية، فالحب عطاء، اعطى نفسك كل شىء، كونى لها كل شىء، اخلصى فيما تقدمينه لنفسك فى كل صغيرة وكبيرة، إلى أن تجدى ذاتــَــكِ فيما تصنعين، فلن يستطيع أحد أن يحب أو يعطى وهو يكره نفسه، وهو لم يستطع أن يقدم لنفسه حبا حقيقيا، اقتربي من نفسك، تحدثى إليها، آمنى بها، حققى ما ترينه صالحا، ويصنع فارقا فى الحياة، بعدها حبى كما شئتى، بعدما تتحققين من الأمر.

لا تغادرى مقام السؤال، دوما اسالى نفسك من الضفة الأخرى، عن جدوى ما يحدث؟، وهل غياب الشىء أو الشخص يصنع فارقا؟ وإذا ما تحققتى، اصنعى ما يمليه عليك ضميرك بنفس راضية، اعطِ ثقتك وعطاءك شريطة الشراكة لا الامتلاك.

(5)

أما عن البلاد،،

فالحقيقة لست أعلم أى مقهى نجلس عليه أنا وأنتِ؟، وفى أى البلاد نحن؟، فقد اتخذت قرارا أن تنشأى فى بلاد آمنة، تحترم الإنسان بداخلكِ، تقدرُ عقلَكِ دون أن تنظر إلى جسدك على أنه سلعة أو أداة، كنت أخطط للهجرة من بلادنا إلى بلاد تتحدث لغة غير التى أكتب إليكِ بها الآن، فأين نحن؟، صدقينى لم أعد أعرف، لكن ما أدركه يقينا أن سر قوتك فى أى مكان تحلين به، هو عطاؤكِ، العطاء يا تولين أعظم ما يهبه الإنسان للإنسان، لكن عليكِ التأكد أنك تزرعين العطاء فى أرض صالحة، لا أرض بور.

أطلت عليكِ، ربما نتحدث فى وقت لاحق عن أمور وأشياء كثيرة، تكونين أنتِ بطلتها لا أنا، فلم أعد فى اللعبة كما أخبرتك فى البداية سوى الظل.

حتى نلتقى: “كونى قوية،، كونى أنتِ،، كونى بخير”.

                                                                                صديقك القديم

كاميـرا الحيـاة 5: «عدوك ابن كارك».. هل صح قول من الحاكى؟!

(هل صح قول من الحاكى فنقبله .. أم كل ذاك أباطيل وأسمار؟)

أبو العلاء المعرى

 هل تعرف مخاطرة أن تدخل مجالا أو “كار”، كما تعبر العامية المصرية، دون أن يزكيك أحد شيوخ الحارة، (أو الكار؟)، أتدرك مغامرة أن تهبط أرضا ليس لك فيها شلة أو سند؟، أتعلم كم من عمرك ستدفع إذا قررت أن تستقل بعقلك، وتعمل وحدك بعيدا عن سلطة كثير من المدعين، أو من يزعمون أنهم قطعوا شوطا قبلك ولهم عليك حق الطاعة والاعتراف بالفضل؟، وإنْ لم يكونوا دليلا لك فى طريقك، ربما عليك أن تدرك أنك تحرث فى البحر كى يطيب خاطرك، وستعمل دون حساب لأحد، بمحبة لما تصنعه.. المحبة فقط هى التى ستنجيك من دائرة العداوة هذه، هل تقول لى حاربهم بالمحبة؟!!

الحقيقة، لا أدرى على وجه اليقين، لكن ما ألمسه جيدا أن محبتك وإخلاصك لما تصنع هما سبيلا النجاة من هذا المستنقع، الذى لا أعلم أيضا هل يخص المجتمعات الفقيرة والخاضعة تحت سلطة القهر، أم أن هذا شأن يقع فى العالم كله؟، (لن أدعى وأحدثك عن العالم، فأقدامى لم تغادر تراب هذا البلد كى أسمع وأرى وأحسم لك الأمر)، وإنْ كان قلبى يحدثنى أنه حتى لو أن هذا يحدث فى العالم الخارجى، بعيدا عن الفساد الذى يتجول فى قلوبنا ذهابــًا وإيابــًا، فإن عقد النقص لدينا لا يستهان بها، وربما تستحوذ على نصيب وافر بين المجتمعات لو أجرى استطلاع رأى لهذا الأمر.

الرئيسية

يكفى أن تأخذ جولة فى مقاهى وسط البلد، وتجالس بعض العاملين فى الشأن الثقافى، (فكثير منهم لا يستند إلى ثقافة تستر عورة العقل، بل فقدت الكلمة معناها على أيديهم وصارت مخزية بعد تصدرهم المشهد وسوء صنيعهم)، اذهب إلى هناك واسمع من هذا الصنف كيف يكيل المديح على أحد من دوائره، وكيف يهين آخر لا لشىء سوى لأنه ليس من الشلة، أو الجوقة التى تغنى لهم ليل نهار، أو أن أفكاره لا تروق لهم، (إن صح أن هناك أفكارا أو كتابة حقيقية، إلا ما ندر)، لكن لن تجد سوى التلاسن والتلاعن والبغضاء، حقا وباطلا، وقلما تجد إنسانا حقيقيا يشهد لأحد لا يعرفه بالفضل والاجتهاد، فهو لن ينتفع من شهادته هذه فى شىء، وأزعم أنْ لو التقيته ستجده على هامش هذه الحفلات المسيئة للجميع، ربما ستجده وحيدا، أو ينتظر أصدقاءه لينأوا بأنفسهم عن صغائر هذا المجتمع الموبوء، وشخصيا أعرف كثيرين يترددون على هذا المجتمع من قبيل الرصد الحى، لمن يــُعدٌّون أنفسهم مفكرين وقــُراء من العيار الثقيل.

369.jpg

هل قلت المصلحة؟!!

وما دخل المصلحة فى شأن ثقافى، وهل هذا سؤال يطرح، (أينما يوجد البشر تفرض المصلحة وجودها فى الغالب)، لكن بما أن السؤال طرح، فلتكن إجابة.

يزعم كثير من العاملين بالشأن الثقافى، كما غيره، أن الإنسان ليس سوى شبكة من العلاقات العامة (وهذا بعيد كل البعد عن فكرة أن الإنسان كائن اجتماعى بطبعه)، شبكة العلاقات هذه تجعلك فوق رؤوس الناس (صحفيا كنت أو مذيعا أو فنانا أو أديبا أو كاتبا أو ناقدا)، تخلق لك ممرا آمنا بين الناس، قد تجعل البعض واثق الخطوة يمشى ملكا، يرفع رأسه فى ممرات مقاهى وسط البلد ليشار إليه (أن هذا فلان)، لا أعلم، ربما أتجنى على البعض، لكن يقينا أن الكثيرين يتصفون بهذا الغرور غير المبرر فى دوائرهم، ولم لا (وهو من أسهم وأنار وكتب، وكشف، …إلخ)، وفقما يردد أصدقاؤه، ويقتنع هو بدوره!!.

فيسبوك

دعونا نأخذ جولة سريعة على عالم مارك الافتراضى، حيث دنيا “فيسبوك”، لاحظ التعليقات التى يحظى بها بعض مشاهيره، (أو من يحظون بمنصب ما)، حتى لو كتب لفظا بذيئا ولم يزد، سيذهلك كمّ المشاركة “الشير” الذى ينالها المنشور، هذا إن لم تجد تعليقا يدّعى عمق المنشور فى هذا التوقيت، وكم هو مناسب للتعبير عن حالنا، وآخر يحسده على جرأته فى التعبير، فى حين أن المنشور لا يعبر سوى عن حالة مزرية يحيا فى ظلها الجميع.

مراة

على ذكر دنيا مارك، ستجد نموذجا آخر ربما يعكس ازدواجية المعايير فى فكرة الكار، يتمثل هذا النموذج فى “النساء”، فكم تحظى منشورات كثير منهم بالإعجاب المبالغ فيه، حقا وباطلا، لكن تابع منشورات بعضهن، ومن تكتفى أو تركز على بث “فيديوهات مباشرة”، لتقرأ تعليقات على شاكلة (الطلة الحلوة والعقل المستنير)، والإشادة بالكتابة التى صدّرت بها الصورة أو الفيديو.. ما علاقة هذا بـ”الكار” الذى تتحدث عنه؟!

 ربما لا علاقة مباشرة أكثر من كون النساء يحظين بالدعم المجانى من أهل الكار، ولا يمنعنا انتشار هذه الظواهر بالاعتراف لبعض الكاتبات اللاتى تستحق الإشادة عن جــَـدها واجتهادها، وعدم سقوطها فى بئر الغواية، أو الاقتراب من النار التى ستحرق الفراشة، لكن يبقى أن أغلبهن يحظين بدعم أهل الكار، لسبب أو لآخر.

عودٌ على بدء

دعونا نرجع إلى فكرة أن يشهد كاتب لآخر بالاحتراف والصنيع الجاد والحقيقى شهادة حق لا زيف أو مجاملة فيها، (يحدث هذا فى حضرة أسوياء النفوس، وقليل ما هم)، لكن السؤال الآن عن الظاهرة، فهل لهذا علاقة بشىء ما فى النفس البشرية؟.. أزعم أن هذا البؤس ينتشر فقط فى المجتمعات المنهارة من الداخل، والمفلسة فى العلن، فبعضهم يخشى أن تظهر أفكار ومشروعات للعلن، يرى فيها تهديدا للقشور التى يدرك جيدا أن خبرات الحياة لم تسعفه لتكون حصيلته أبعد منها، وأنه أكثر بخلا من أن ينفق ساعات بين الكتب، كما أنه مستفيد من سلعته بحظوة العلاقات فحسب.

8888888

وربما يؤمن البعض بما تقول، لكنك لم تمر عبر بوابته، ولم تستأذن شيخ الحارة فيؤدبك بالتجاهل أو بالتلاسن عليك، أو  بالحجب، يحدث كل هذا إلى أن تدخل عبره، ويحظى بتقديمك للمجتمع وبأستاذيته التى تسمح له بتقديم الجديد المتطور، بعضهم أيضا تأخذه نشوة الغرور والطاووسية الفارغة ليكون لسان حاله: (من أنت قياسا على ما يقدم الطاووس؟).

يملك كاتب هذه السطور، كما يملك غيره، (ممن حفظتهم المشيئة من التقرب إلى هؤلاء الطاوويس إلا عن بعد كى يراقب ويرصد ما تقرأ بعضه الآن)، يملكون الكثير من الحكايات التى تفيد بأن تنحنى للعاصفة ولغيرها، وتلين، وتشعر بالخزى، وتكتب عن هذا، وتعلق على هذه  كى تنال الغفران، لماذا لا تكتب منشورا يشيد بعظمة هذه أو تلك (هذا فى زمن فيسبوك بالطبع)، أما قديما فكان لابد أن تزور فلانا وتتودد إليه، وتقدم فروض الولاء والطاعة، وأن تعمل “مطيباتى”، (هى كلمة مصرية تعنى أن تهلل وتكبر لما يقال حتى لو لم يستدع الموقف أو المشهد هذا)، كى يراك شيخ الحارة ويبارك خطاك بدوره، ولم يعد هؤلاء يعلمون أن أرض الله واسعة، وأن منابر النشر اتسعت، وسيمنحك الزمن يوما أو فرصة تقول فيها ما لديك، (إن كنت تملك ما تقول ولست من فئة الأدعياء، وإلا ستحترق بنار المنحة إلى ستصير محنة، وستكون اسما جديدا يضاف إلى القائمة السوداء).

ربما يطول هذا اليوم إلى أن يأتى، لكن ربما يأتى!!، وقتها ستسقط ورقة التوت عن الكثير، وإن كان لديك ما تقوله فلن يمنعك هؤلاء، وبعيدا عن المواقف التى يرفض القلم الخوض فيها، على الأقل الآن، لكن يظل طعم المرارة بالحلق، والصورة الباهتة والقاتمة تراود ذاكرة الكاتب، تتعدد الروايات، وتتزاحم المشاهد، ويبقى أن الكثير يريد أن تخرج من عباءتهم، وأن تقدم التنازلات التى قدموها كى تتساوون فى الخطيئة.

أشهد أنى رأيت شيخا كبيرا (أكاديميا مرموقا)، يجلس فى حضرة أحد الكبار بحق، يستجدى أن يصفح عنه، بعدما روج الشبهات عن مشروع رائد له ذات يوم، بإيعاز من أحد المثقفين المشهورين، وفقما أعلن الأكاديمى المرموق، استرضاء للمثقف كى يحظى بمنصب فى هذا الوقت المبكر من حياته الأكاديمية، وظل يردد  (أنه غـُرر به، ودخل معركة لا ناقة له بها ولا جمل) بطريقة مهينة، كان ينقصها أن يعفر وجهه بالتراب، ومن فرط تقمص المسكنة لم يلحظ وجودى كغريب بينهم .. المدهش حقا أن زيارة الاعتذار هذه، والتى غابت لسنوات طويلة، لم يكن دافعها الاعتراف بالخطأ، وإرجاع الحق إلى أصحابه، بل جاء لأن له كتابا جديدا، ويريد من هذا الكبير أن يكتب له تصديرا كى يحظى بالمشروعية، والسؤال الذى طرحته على نفسى آنذاك: ما الذى جعلك تكتب ضده، واليوم جئت إليه معتذار وتطلب منه هو لا من غيره التصدير؟، وما الفرق الذى قد يكون بينك وبين من تبيع جسدها لراغبى المتعة، لظرف أو لآخر، إن لم تكن بائعة الهوى هذه أكثر شرفا ووضوحا منك؟!، والسؤال الأكثر جدوى هل كان سيعتذر لو لم تحكمه المصلحة؟، وكيف يستقبل الأكاديمى المرموق تلامذته، وعلام يحثهم (الرجل)؟

 

ربما لهذا علاقة بفكرة توريث العبودية، وتجرع المذلة والإهانة، كى يعترف بك بعض أنصاف القــُـــراء، وأشباه البشر، هنا تتجلى العقدة الدرامية، فماذا تنتظر من شخص كهذا كنموذج للكثير غيره؟!!.. أن يعترفوا بك، أو أن يشهد فى حقك وأنت ترفض السجود أمام أصنامهم الواهية التى صنعوها بالمذلة والرخص، فماذا قدمت لذواتهم وملذاتهم النفسية كى يرضوا عنك، ويصفحوا ويشهدوا شهادة حق، وهو الذى استؤجر كى يكتب، ونال المنصب جزاء الدناءة لا الكفاءة.

كل هذا ربما لا يهم على خطورته، لكن ما يقلق هنا أن هؤلاء وأشباههم هم من تنتظرهم قيادة المشهد، فماذا تنتظر أن يكون شكل المشهد الثقافى إذن؟!

3.jpg

أليس فيكم رجل شريف؟!

 بلى يوجد، لكن أمثال هؤلاء لن تجدهم وسط بركة الحياة هذه، ستجد أحدهم مهموما دائما بما يعكف على الانتهاء منه، لا يعلو له صوت وسط معركة الطرش هذه، يتكأ على قلمه فحسب، يتحقق جيدا مما يكتبه، يتخوف من إعلان حقيقة ما توصل إليه على وجه اليقين، تجده يمشى متواضعا بقدر علمه، يسمع ويرى ويرصد ما يجرى فى محاولة لالتقاط حقائق ما يحدث لا لصنع بروباجندا لا طائل من ورائها سوى زيادة أحاديث النميمية حديثا، والانتهاء باختراع أكذوبة جديدة.

ببساطة يمكنك اكتشاف هذا، والتفريق بينهما عبر (المنجز، وماذا يقدم، وكيف قدمه)، ربما ينير هذا لك شيئا فى الدروب المظلمة من ثقافتنا الحزينة.

2

حقا هى مخاطرة أن تدفع بنفسك وسط أمواج من البشر لا يعرفونك، وتعلن ما قد يجرح أحدهم، دون أن تقصد بالطبع، أو يكشف زيف آخر، أو حتى لا يحدث هذا أو ذاك، لكنهم لا يعرفونك، وقد تكتشف أن كبيرهم ليس معنيا فى الأساس بالإنصات لمعنى يذكر، فهو يرفع شعار (أنا جاى أهزر)، أو (جاى أجامل وأروح)، فما بالك بالصغير منهم؟.. مغامرة غير مضمونة العواقب إن انتظرت شهادة من أحد فى حق ما تعمل، فأنت لم تقدم له شيئا كى يعترف بفضل صنيعك، أما وجه الحقيقة فلتذهب أنت والحقيقة إلى الجحيم، فما هذا الجنون الذى تهذى به؟

أما أن تفكر بمفردك وعلى نحو مستقل، فهذا أيضا ضرب من ضروب الجنون، وستواجه بأسئلة على شاكلة (من أنت لتقول لنا ما تقول لنا؟)، وما حيثياتك؟ ومن يعرف هذا الغر؟، وهل أنت صديق فندعمك أم غريب فنقذفه بالحجارة؟،،، بينما لا يصغى أحد لما يقال بالأساس وإلا ما صب نقده وحديثه إلى مـَن يقول لا ماذا يقال؟!.

1

وربما تنهال عليك السهام لأنك تخالف الرواية الرسمية للأحداث، أو لأنك تغرد خارج السرب، ربما تهاجم أيضا لأنك تسعى أن تكون حرا فيما تقول، جريئا فيما تطرح، (تقول ما تريد وقتما تريد وكيفما تشاء بطرح قيم وبعرض مكثف)، وربما لأن كثيرا من هؤلاء المدعين يشكلون فى مجموعهم مجتمعا خَصيا، فيطالبون بتأديبك وخصيك كى تتساوى الرؤوس، ولا تستطيع أن تكشف عن عورتهم العاجزة.

 هل ستهاجم لفكرة الاختلاف وسط مجتمع من المفترض أنه معنى فى المقام الأول بأن يفكر كل على طريقته، وألا نكون قالبا واحدا، وألا يشبه بعضنا الآخر كى تكتمل الصورة؟، ربما، فأن تطلع على كتابات ومصادر لا تشبه ما يجتمعون عليه، وتقدم طرحا جديدا ومغايرا لما هو سائد، وتدخر مجهودك فى فتح آفاق أوسع وأكثر رحابة على كتـّــاب حقيقيين، وأفكار رائدة، بدلا من إهدار طاقتك على الانتشار بحظوة العلاقات الباهتة، فأنت تقترف الخطايا، وتتجرأ على أصنامهم، وعليك أن تدفع أيضا الضريبة وفقما يظنون فيعاقبوك بالعزلة، وأزعم أن لو كانت العزلة على هذا النحو فهى أكرم للمرء من اختلاط مهين للعقل والروح والإنسانية.

كاميـرا الحيـاة (4): “اخطف واجرى”.. طريقة لا تصلح للثـــراء!!

“ماذا ينفع الإنسان إذا كسب العالم..

وخسر نفسه” المسيح عليه السلام

 

يعتقد الكثير منا فى ظل الفساد المحيط بنا أن شعار “اخطف واجرى” يستر عورة الحياة أو يَصلحُ طريقا للثراء، لكن ما جرت به وقائع الأيام يبرهن على أن هذا الشعار لا يؤدى إلى طريق سوى طريق الخزى كما لا يـُعمر بيتـًـا، رغم أن الصورة من الخارج تـُبدى عكس هذا، وقد يرجع أمر الصورة هذا إلى تصديرها للغير على غير حقيقتها، ربما رغبة من أصحابها فى ترميم ذواتهم المتهدمة من الداخل، ربما جبرا لخواطر أنفسهم، أو حتى كى لا يشمت بهم متربص أو مترقب أو حقود، وبالطبع هم لا يرون أنفسهم مدعاة للشفقة.

2

“اخطف واجرى”، لم يعد منذ فترة مجرد شعار، بل صار أسلوبا لحياة الكثيرين من أصغر التفاصيل إلى أكبرها؛ من سرقة حارة فى الطريق أثناء القيادة، إلى الاختلاس والارتزاق من قوت الغلابة، أو من يترأسهم الفاسد فى العمل، إلى استكثار النعمة على أحد والاحتيال على بعض أمواله أو ممتلكاته، أو حتى قبلات مسروقة فى قارعة الطريق، أو سرقة علاقة ليس من حقك مد عينيك إليها، فضلا عن أن تحتال وتستحوذ عليها.

1

فئة غير قليلة صنعت ثروة من الأموال التى لا حق لها فيها؛ (صفقات مشبوهة، رشاوى، سمسرة، مخدرات، وغيرها)، لكن يحدث أن يظل هؤلاء الفاسدون يجمعوا الأموال ويكتنزونها، يُشيدُون القصور، ويملأونها بالخدم والحشم، ينظمون مزيدا من السهرات الفاحشة، يكررونها المرة تلو المرة، يقيمون علاقات رفقة مع حسناوات كُثـر، بعبارة فقراء بلادى “لعب معاهم الزهر”.

“تمر الأيام والشهور والسنون، وينتهى الأمر بمرض خبيث، أو بالتورط فى جريمة والسجن خلف القضبان، أو بوريث طائش يبعثر هذه الأموال يمينا ويسارا، وفى أحسن الأحوال ينتهى دوره فى لعبة الفساد الكبير فيعيش كالميت دون دور فى اللعبة التى كان يوما مركزا لدائرتها.

يحدث أيضا أن يحصل محتالُ ما على منصب لا حق له فيه، ويجلس فى مكان ليس له؛ (يظلم، ويفتن، ويأذى هذا وهذه وتلك) وهو فى طريقه لهذا الكرسى، يقدم تنازلاته، يخسر معها ما تقدم من كرامته وما تأخر، يـُخلص فى طموحه المشروع بطرق ملوثة وغير مشروعة، بالفعل ينال الكرسى، ولأمر تافهٍ لا يُـقنع أن يكون نهاية للدراما الكبيرة التى يعيشها المحتال، يلقى به ولى نعمته كمنديل ورقى فى أول صندوق للقمامة بعدما قضى به حاجته، وبدوره يلقى المحتال على القدر مسئولية مظلوميته، ويرى أن ما وقع معه لم يكن عادلا، وأن ما قدمه من تنازلات كان يستحق عليه أكثر.

3

هناك أيضا صغار اللصوص، (أعنى بهم لصوص الفُتات)، ليس نزاهة منهم، بل لأنهم يقفون مجبرين فى آخر ممر السرقة، وهذا ما قد يصل إليهم، أو تطاله أيديهم، يرى أفراد هذه الفئة أن سرقتهم مشروعة فهو يسعى لتأمين مستقبله ومستقبل أولاده، (يشترون المسكن، يبدلون السيارة لموديل أعلى)، لكن وللحق هم أكثر الناس دناءة، بحكم ما عاصر الكاتب وكان شاهد عيان على وقائع بعض أفراد هذه الفئة، فما يرددونه لا يصلح سوى مبررات يسوغونها لتمرير سرقاتهم، ففى نهاية الأمر هم غير معنيين إلا بمتعهم الخاصة، وغالبا ما تكون قذارة بطن، أو عبور سرير لمن ترتضين بهم من النساء، ولهؤلاء قصص قد تتجاوز ليالى الألف ليلة.

فى نهاية الأمر يظل هؤلاء يرتعون هنا وهناك، بحثا منهم عن الحياة التى مرت أمامهم دون أن ينتبهوا، ولم يستطيعوا اللحاق بها.

أما شبكة العلاقات القائمة على المصالح، فأظنها أيضا لا تـُعمر، فهى صاحبة عمر قصير تنتهى بانتهاء المصلحة، خلاصة القول قد يبدو الأمر أن مثل هؤلاء المتسللين من بين الطبقات الاجتماعية، أو وارثى المال الحرام؛ (الذى تأذى الكثيرون بسببهم كى يُشبعَ اللصُ خزائنه)، ليستمتع به غيره، أقول قد يبدو كل هذا من الخارج ممتعا، فمثل هؤلاء يمتلكون (المال والصحة ووافر المزاح)، وهو كذلك بالفعل، لكن إن قادك حظك لحضور حديث مع أحدهم فى جلسة خاصة، ستجد أنه “ديكور خـَــرِبٌ من الداخل”، لا ينتمى إلى أى شىء سوى المال الذى يعيش ليهرول من أجله ويفقده السعادة التى يبحث عنها، دون أن يدرك أنها معه.

(هل هناك أقسى من أن تمتلك سعادة بين يديك، وتعيش عمرا كاملا تبحث عنها فلا تجدها، وتبوح هى لك بهذا السر القاسى وأنت فى النزع الأخير، تصدمك بفتح خزانة الاعترافات وأنت على سرير الموت، لتخبرك أنها حُجبت عنك عن عمد، وأنها اختارت نزعك الأخير كى تنهى حياتك مقهورا، وأنت تستدعى ذكرياتك فى شريط سينمائى أمام عينيك، ولا تستطيع أن تفرق بين الحقيقة والخيال فيما مررت به، وهل كانت حياتك أنت أم حياة غيرك؟)

“راحة البــال”، كلمة لا تخطر على بال هؤلاء، ولو حدث وترددت على أسماعهم ستسمع تنهيدةً موجعة تهز أعماقهم، فأين هى فى تفاصيلهم اليومية؟، وهم من استحلوا كدح غيرهم، وداسوا على كل شىء، فلم تعد للكرامة لديهم معنى، سحقوا فى طريقهم كل ذرة إحساس قد تشعرهم يوما ما براحة البال هذه.. هل تدرك كم هو أحمق من يسحق شيئا يبحث عنه، وأى ضلال يعيش فيه؟.

 

4

المدهش أنه على فرضية وصول أحدهم إلى هدفه، يظل يندب حظه، ويسأل عن الفردوس الذى فقده فى الطريق، ودَهس من أجله الجميع، ولم يدرك أن الفردوس فى الجميع الذى دهسه، لا فى الذات التى بعثرها هنا وهناك، بل هو من وضعها على قضيب قطار قرر أن تكون سائقه.

تــُرى هل يدعو الكاتب إلى الاستمتاع بالفقر، ويسعى لتزيينه كفضيلة كى تظل سعيدا؟، الحق أقول لك أن صاحب هذه السطور شأنه مع المال شأن الكثيرين، يؤمن به حد اليقين، ويدرك أن من يمتلكه فقد امتلك مفتاحا رئيسيا من مفاتيح الحياة، لست مثاليا بما يكفى أو مدعيا لأخبرك عن “رذيلة المال” فى المطلق، وأزين لك حياة الزهد والفقر، فهل هناك منطق لدعوة تنتزع من الحياة أدواتَها وإمكانياتها، إلا إذا كنا نتحدث فى سياق آخر بعيدا عن الحياة، لا أظن، وبما أن الحال كذلك فسيظل المال سيد الموقف، وصاحب الكلمة العليا بلا منازع.

حيرت قلوبنا معاك، ماذا تريد إذن، أريد القول إن المال فى اللعبة مجرد أداة جبارة، غالبا ما تربك اللعبة حال الغياب، هو بحق أداة قد تصنع منك شيئا مهما، شريطة ألا تخرج عن كونها أداة تظل حبيسه فى عقلك وبين يديك، أما إذا تولت هى مقاليد الأمور، فقد استبدلت الحياة الأدوار بينكما، فتملكك بدلا من أن تملكها، باختصار تكون هى سائق القطار لا أنت.

الخلاصة أنت بخير مادمت أنت من يستعبدها، يُسخرها لصالحه، وفى حال استعبدتك هى فاعلم أنك ستظل تحرث فى بحر الحياة، ولن ترتوى إلى يوم أن يمتلأ فمك بالماء، وتغرق، وفى النزع الأخير فحسب سترى أنك كنت صيادا للسراب الكبير، ونسيت أن تعيش الحياة وأنت تبحث عنها.

 

 

 

 

 

 

 

كاميـــرا الحيـــاة (3): بين المذلة والجبروت.. غـَرقى الاضطراب النفسى

“أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً
مع مَنْ يحبّونَنا، تلك هي دُونيّة المُتعالي،
وغطرسة الوضيع!” محمود درويش

يرى البعض أنك إذا أردت أن تعرف شخصا على حقيقته من دون تجمل أو خداع، من دون مزايدة أو  ادعاء، فانظر كيف يتعامل مع الأقل منه درجة على سلم الطبقات الاجتماعية، ويرى صاحب المقال هنا أن الصورة لا تكتمل إلا أذا رأيته يتعامل مع الأدنى والأعلى منه.

88

فى الشارع انظر على سبيل المثال صورة بلطجى فى أحد موقف السيارات، وهو يقف وحشا كاسرا مع السائقين الذى يأخذ منهم الإتاوة مقابل تحميل الدور، وفى اللحظة ذاتها كيف يتحول إلى قطة تتمسح فى ذَكرها، أو ذَكر يتمسح فى أنثاه، حينما يتحدث إلى أمين أو ظابط شرطة، وبالتبيعة معاملة هذا الأمين إلى الضابط وبدورهما إلى من هم أعلى منهما، وهكذا فى دائرة من القهر لا نهاية لها. فى العمل أيضا لاحظ كيف يخاطب البعض مديره، وبعدما يديره وجهه الذليل كيف يخاطب مرؤوسيه أو عمال النظافة أو البوفية.

1.jpg

فى العلاقات غير السوية يتمركز القهر فى دائرة، ويستحوذ عليها إلى أن يصير دوائر أضغر من الظلمات، تبدأ من القهر وتنتهى إليه، فى الشارع كما فى العمل كما الحياة الأسرية، يمارس الزوج القهر على الزوجة، أو العكس، والتى تمارسه على الأبناء، بينما لا يستطيع أحد أبناء هذه الأسرة التنفيس عن أضراراه النفسية أو الجسدية فيصاب بالاكتئاب، أو يصبح قنبلة موقوتة من الغضب قابلة للانفجار مع أول موقف قد يصادفه، بينما دائرة أسرة السوء هذه لا تعرف لراحة البال سبيلا، فلم يا تــُرى، وما الذى أودى بهم إلى مهالك الطرق، ونهش بعضهم أرواح بعض.

فى الشارع يعتمد البعض طريقة (تشتيت الانتباه، أو الرهبة)؛ (الخطفة) أو(الدَّخلة)، وفقا لتعبير العامية المصرية، (لا أعلم إن كان بعض الشعوب يعتمد هذه الطريقة أم أنها مما يختص بها المصريون)، تتلخص هذه الطريقة فى أن يختلق تهمة أو قصة وهمية أو حوارا افتراضيا بهدف تشتيت عقلك ليسلب منه ما يريد معرفته، والناس فى بلادى مذاهب فى هذا الشأن، فمنهم من يعتمد طريقة أكثر نعومة، فيحدثك بهدوء وسكينة، (هذا إذا لم يطلب لك عصير لمون من قبيل الجنتلة أو واجب الضيافة!!)، ويبدأ ببسمات ماكرة ووديعة يقدم لك أيادى المساعدة، بينما الحقيقة هو الذى يوقعك فى الحفرة، وهو من يرفع السلم الذى كنت ستخرج من الحفرة عن طريقه، والمفارقة سيقف فى الأعلى ويصرخ فيك (انهض يا صديقى)، ها أنا أحاول مساعدتك، وهو يستمتع بالارتباك الذى يكسو ملامحك، والحيرة والقلق الذى ينتابك.

5.jpg

المفارقة هنا أنْ لو أسعدك الحظ، كما صنع مع صاحب هذا المقال، ورأيت هؤلاء المتجبرين أمام أولياء نعمتهم، فستجد نفسك أمام عالم مغاير تماما، أمام فيلم درامى بامتياز غير الذى تعرفه عن هذا الرجل أو تلك المرأة التى تجسد هذا الدور فى سينمادراما الحياة.

مبدئيا، دعنا نتفق أن الفئة التى تعتمد على صرف الذهن ويتعامل معك على أنك فريسة، ليسوا بشرا أسوياء، فهم، في رأيي، أبناء الشتات الطبقى (الذين حاولوا كسر حاجز طبقى ما بخداع وبطريقة رخصية لا بجد ومثابرة وافتخار بما هم عليه، اختصروا الطريق فقرروا أن يبيعوا،، يبيعوا أى شىء!!)، هم أبناء الطرف الأضعف فى دائرة القهر، فـَـرّغ الجميع أزماته عليه ورحلوا، وتركوا عليهم آثار الممارسة، ببساطة قٌوتـُـهم ليست من داخلهم، ودائما يعتمدون غيرهم مصدر قوة، فيصدرون أنهم “تابعون” لفلان، بل ويفتخرون بالقرب من دوائر فلان، فى وقت يفترض أن يشعروا بالخزى، المهم أن هذه صفات مما رصدتها، وهى غير ملزمة لك.

 أظن أن من حقك هنا أن تسأل: وماذا بعد؟!

المقصد أن كل ما مر بنا يجعل أفراد هذه الفئة مترقبين، شكاكين (دائما يتوقعون أن هناك من يتآمر عليهم، أو يتحدث فى حقهم بسوء)، دائما ما يختبر أفرادها مَن أمامهم هل يصلح صيدا ثمينا وفريسة تقع فى شباكهم النفسية؟، بل لا يملون من تكرار هذا الاختبار إلى أن يجد أحدهم وجها حديديا يسقط على رأسه، وقتها ينتبه، ويقرر التجنب ويبحث عن آخر، فهم يتغذون على العفن، ولا يمكنهم العيش بدونه.

 وإذا حدث ووجد ضالته فيمن يستمتعون بهذا الدور، فإنه  يمارس عليه عقد النقص هذه، ويشعر بنشوة، وبانتصار غير مبرر!!، والسبب فى رأيى أنه لم يربح سوى  الغوص فى الوحل لمسافة أبعد، فعلام الفرحة إذن؟، وما وجه الانتصار فى ابتلاع الدود، ربما فى هذا ما يسعدهم.. لهم هذا، فليس من حقنا أن نحجر على اختياراتهم!!.

6

تظل الصورة أمامى ليست فيما يصنعونه مع غيرهم أو الأقل منهم تحديدا، بل فيما يقدمونه من خدمات لدى سيدهم، ( وهذه هى المفردة الأكثر دقة فى الاستخدام هنا)، حيث النميمة والأخبار المغلوطة عمن ينافسهم فى الحظوة لدى السيد، أمتع ما يقدم فى الصورة (إذا كنت من المشاهدين بالطبع)، هى فقرة التسلية التى يبدعون فى تقديمها، فهى الرهان الحقيقي على إبداعهم فى دور الذليل، ومدى إتقانهم لدورهم فى لعبة الحياة.

واقع فقرة التسلية هذه هى محور العقدة الدرامية، فهى الفقرة ذاتها الذى يريدها هذا الذليل أن تــُقدم إليه من الدرجة الأقل دونية منه، وإذا لم يفعل بعض الأسوياء هذا الصنيع، يأخذ منه موقفا حادا، قد يصل لدرجة الكراهية أو يتصعد حد العداء المعلن.

أما مَن يقرر ممارسة فقرة التسلية لهذا الذليل، فيكون قرة عينه، إذ يستمتع الذليل الأعلى درجة على سلم القذارة هذه، بمشهد الذليل الأقل دونية منه وهو ينزع عنه ملابسه بتغنج، القطعة تلو القطعة، وهو يشاهد بلذة وحسرة معا ما يحدث، فبعد قليل تُستبدل الكراسى ويكون هو فى الموضع ذاته مع سيده، أدرك هذه أو لم يدرك.. نحن أمام مشهد يجسد “مركب النقص”، والتعويض النفسى، كثير منا يحيا فى حياة بعضنا البعض من هذا المنظور، (هو أو هى تشبع رغبة ما لدى الآخر).. مشهد معقد نفسيا حد الارتباك، وربما يؤثر من يشاهدون من الخارج التخلص من الحياة على أن تستمر على هذا النحو المهين.

نملة.jpg

(الصورة هنا أشبه بكاميرا تلتقط نملة تقف بين يدى صرصار، والذى يقرر بدوره أن يستمتع، فيشير إليها، تقترب يخبرها أنه مكتئب، تشفق النملة عليه، وتفتخر بأن هذا العملاق قربها منه واستأمنها على أسراره، فى هذه الوهلة يلتقط العملاق ما دار فى نفس النملة، فيصدمها أن ترقص له، يأمرها بالتسلية، فتدرك النملة أنها وقعت فى الفخ، أو أن يصرخ الصرصار ذاته فيها بغضب: ارقصى، أو يرسم نخلة على الحائط ويأمر النملة أن تأتى إليه بالتمر، (وهى أمثولة شعبية تجسد فكرة الاستمتاع بمهانة الغير فى أمر محال)…

ينقسم كادر الكاميرا إلى جزءين لا انفصال بينهما، فنرى النملة تمارس القذارة نفسها على نملة أصغر منها بوضاعة وقذارة أوسع، يعلق الكادر على مشاهد متعددة وسريعة لنمل أكثر، وفى كل مشهد تتكرر المشاهد نفسها، لا يتغير فيها سوى أبطال المشهد، ينتهى الموقف الدرامى بمشهد يبتلع الشاشة يصور ممارسة رذيلة المهانة فى عالم النمل فحسب، ويطرح سؤالا جوهريا: (فى أى مقطع يرى كل (ذليل/متجبر) نفسه فى متوالية الحلقات هذه؟).

فى نهاية التدوينة التى بين أيدينا، يزعم المدون هنا أن كل هذا يسقط إلينا من دائرة قهر عليا، تمارس من الأعلى إلى الأدنى، وهو إسقاط لواقع نعيشه، الجميع يتضرر منه، ولكل نسبته، وإن قَلَّت، ولعلنا لن نتخلص منه إلا إذا أدركنا دورة القهر هذه، وأصاب الوعى ذواتنا وعرفنا أننا بشر لا ينبغى لنا أن نعيش على هذا النحو، وبتلك الصورة القذرة التى لا تناسب سوى صراصير فى بالوعات المجارى.. هى صورة لابد أن نهرول بأقصى ما أوتينا من قوة للابتعاد عنها وعن دوائرها، وندعو المشيئة ألا تجبرنا على الوقوع بداخلها أو بالقرب منها، وأن نكون على مسافة منها وبمن بها.

كاميــرا الحيـاة (2): عابرون فى شوارع المدينة الصاخبة

 

(هذه التدوينة من وحى خيال الكاتب،

وربما لا تمت للواقع بصلة)

لو أنك ممن يتسكعون فى شوارع ومناطق القاهرة ليل نهار، كما هو حال المدون هنا، ربما يوحى إليك عقلك ولو على سبيل المجاز، أن سكان القاهرة ليسوا أبناء وطن واحد، ولعل الخيال إنْ نال منك سترى أننا لسنا أبناء مظلة اجتماعية واحدة، كما لا تحكمنا منظومة مرجعيات أو سلوكيات واحدة.. (كل واحد على صحيحه)، كما يردد البعض،  سترانا بشرا مغايرين عن بعضنا البعض، الجميع لديه ما ينتقده تجاه الآخر الذى لا يعرفه، وربما يلتقيه لدقائق معدودة، هى مدة اجتماعهما فى وسيلة مواصلات واحدة.. فهل ضاقت بنا شوارع العاصمة لهذا الحد من الاختلاف، ولدرجة توحى بكل هذا التناقض، أم أنها من وحى الخيال ولا تمت للواقع بصلة؛ ربما.. وربما يرجع الأمر أيضا إلى العدد الهائل الذى يزور ويسكن هذه المدينة الصاخبة يوميا. (مترو الأنفاق يقل نحو 3 ملايين ونصف المليون مواطن  يوميا، وفقا لإحصائية وزارة النقل فى 2016).

مترو.jpg

من حقك الظن أنى أتلاعب بالصورة هنا، لكن دعنا نستند إلى بلاغة الواقع، فإننا من الواقع وإليه نعود.

القاهرة 3.jpg

يزعم المدون هنا أن المارين فى شوارع العاصمة ليسوا سواء، ذات فترة كنت أذهب إلى عملى فى تمام الساعة الثامنة صباحا، كان مقر العمل يبعد عن بيتى ما يقرب من الساعتين، كنت أخرج بعد الفجر، فى هذا التوقيت كنت أرى مصريين ليسوا كالمصريين الذين أراهم طيلة اليوم ذاته، يخبرنى حدسى أن بعضهم من العاملين ببعض المصانع التى تفتح أبوابها فى الصباح الباكر، ويؤكد الواقع أيضا أن كثيرا من الخارجين فى هذا التوقيت من عمال التراحيل الذى يخرج معظمهم فى جماعات، كـ”عمال الخرسانة” و”التشوين”، وهؤلاء لمن لا يعلم عن المقاولات الكثير، هم الفئة الأشد قوة، والأعلى سعر نسبيا فى عالم المقاولات، وبالطبع هم الأكثر تحملا لمشقة العمل وضغوطه وسرعته غير الطبيعية، وللأسف الأسرع فى الشيب مما يرون قياسا على نظرائهم من العمال، لا يضاهيهم فى عملهم هذا سوى ما يعرف بـ”النحات”، دعك منها الآن، فلهؤلاء الكادحين قصة قد تطول ربما أنقلها لك يوما ما، وحتى لا يأخذنا الحديث وننسى العابرين فى شوارع القاهرة الذين لن ينتظروا بالطبع.

 

خرسانة

يحدث أحيانا أن أستيقظُ متأخرا، خاصة إذا عدت إلى بيتى بعد الثانية عشرة ليلا، فأكون بالشارع ما بين السابعة والثامنة، على سبيل المثال، فأرى وجوها غير تلك التى رصدتها بالأمس؛ (إن كنا فى فترة المدارس أجد أمهات وآباء يهرولون بأبنائهم وبناتهم إلى المدارس، ناهيك عمن يقفون أمام الحضانات)، وإن كانت الإجازة تلتقى الموظفين والموظفات الذين يبدأ عملهم نحو الثامنة والتاسعة صباحا.

أولياء أمور.jpg

لو تأخرت قليلا، فتكون بالشارع نحو العاشرة صباحا على سبيل المثال، ستجد بشرا آخرين (بَين بَين)، لا تعلم إلى أى المهن ينتمون، قد تجد الحـِرفى “الصنايعى”، والموظف المتكاسل، (من راحت عليه نومة)، وربما هكذا هى مواعيد عمله، إنْ كان يعمل بالقطاع الخاص، ستجد أيضا بعض التلاميذ فى المدارس بصحبة فتيات، أو قد ترى كل منهم فى مجموعات على حدة.

منذ الثانية عشرة وحتى الثانية ظهرا، ترى بعض الموظفين المغادرين عملهم مبكرا، ربما تهربا، أو لقضاء حاجة ضرورية له من مكان آخر، ستجد أيضا من يقضى مشوارا هنا، أو مصلحة هناك، حتى الخامسة ستجد مزيجا بين هذا وذاك.

من السابعة مساءً وحتى الحادية عشرة ليلا قد ترى أغلب العابرين من الشباب والفتيات، الذين تتراوح أعمارهم ما بين الثامنة عشرة، وقد يقل، وحتى الخامسة والثلاثين، وقد يزيد، وفى سعى هؤلاء دواعى ومآرب متباينة كل بحسب ميوله ورغباته وأحيانا تصاريف الحياة.

من الحادية عشرة وحتى الواحدة صباحا، هذا عالم متشابك نسبيا، إذ يتميز رواد هذا الوقت بالجرأة، وبإدراك أعمق لتفاصيل الحياة، أغلبهم خبير ومدرب بما يكفى لتجنب عقبات الشوارع والبشر غريبى الأطوار المنتشرين فى هذا التوقيت.

أما عابرو الساعة الثانية والثالثة من صباح اليوم الجديد، فهؤلاء يتأرجحون عادة ما بين العائدين من أعمالهم التى قد تبدأ من منتصف نهار اليوم المنقضى، وما بين العائدين من قضاء سهرة لطيفة برفقة الأصدقاء، قد تصل ببعضهم حد السكر والتمايل قليلا، وبعض الثقل فى الحديث على نحو ملحوظ نسبيا، هذا إن قرر الكلام بالطبع.

 ما بين الرابعة صباحا وحتى السادسة فهؤلاء محترفو السهر، وأبناء الليل عن جدارة، هم سادة الليل وآخره، ولهؤلاء ألف حكاية وحكاية، ربما نتوقف عندها ذات مرة.

القاهرة

على كل الأحوال، تتنوع أصناف البشر فى بلادى، تختلف ألوانهم، تتباين ملابسهم، وتتعدد ثقافاتهم ولهجاتهم، لكن يتفق كل عالم منهم، وفق التصور الافتراضى الذى مررت به، على إدراك لغة الإشارة التى توحى بالإرهاق، أو بالصمت، أو بالتمادى فى الحديث، أو تسلية الطريق ببعض الحكايات، والتعقيب على ما حدث هنا، فى الطريق أعنى، أو ما حدث هناك، (مباراة، أو موقف شغل الرأى العام).

يجتمعون أيضا على توقع مهن بعضهم البعض، أو أحوالهم المادية والاجتماعية أو غيرها، بما توحى به مؤشرات كنوع الملابس أو طريقة الحديث.

أحيانا يشفق بعضهم على بعض فتسود الحميمية وسيلة المواصلات التى تجمعهم، وأحيانا يرتفع مستوى الضغوط فتتحول المواصلة  إلى ساحة حرب… يختلفون ويتفقون ويبقى العبور من بين صخب شوارع القاهرة  التى لا تنام هو الرابط والمشترك بين الجميع.

 

مدونة مصطفى سليم